إننا نقدم على الله تعالى فإذا بنا بين طيات
أعمالنا ، ولا تتصوّر حال أولئك المذنبين حين
يصوّر الله تعالى حالهم ، قال تعالى " يوم تجد
كل نفس ماعملت من خير محضراً ، وما عملت
من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ،
ويحذركم الله نفسه " فيا لله لو رأيتهم وذل
المعصية يكتنف قلوبهم ، وهول الموقف يعصف
بآمالهم !
الأعوام تتصرّم ، والأيام تتوالى ، والأقدار
مجهولة ، ولا ندري متى نقدم على الله تعالى ؟
فما أحرانا بوقفة صادقة نستجلي فيها حياتنا ،
ووقفاتنا ، وأعمالنا . وقفة نتأمّل فيها دقائق
أعمالنا وصغائر أخطائنا .
لو استعرض الواحد منا حديثه ، وما يبثه لسانه
، وحاسب نفسه عليه لأدرك أن القضية خطيرة
جداً ، وأن الإنسان إن لم يتنبّه للخطر اليوم فقد
يغرق غداً ، كيف لا . والله تعالى يقول "
مايلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد "فأي شيء
تكلمت به منذ خلقك الله تعالى إلى يوم القيامة
محفوظ في صحائف الملائكة التي أخبر الله تعالى عنها بقوله : " وإن عليكم لحفظين ،
كراماً كتبين " وإذا كان اللسان يراقب هذه
المراقبة فما بالك بسائر جوارحك ؟!

إن الموقف بين يدي الله تعالى يوم القيامة
عظيم ، يربح فيه الرابحون المحاسبون
لأنفسهم ، ويخسر فيه المفرطون ، عرض الله
تعالى صورة الرابحين يوم القيامة ، وجزاؤهم
بين يديه فقال تعالى "هذا ذكر وإن للمتقين
لحسن مئاب . جنّت عدن مفتحتة لهم الأبواب .
متكئين فيها يدعون فيها بفكهة كثيرة وشراب
. وعندهم قصرات الطرف أتراب . هذا
ماتوعدون ليوم الحساب . إن هذا لرزقنا ماله
من نفاد " وعرض حال أهل الخسارة ومواقف
الندم ، فقال تعالى " هذا وإن للطغين لشر مآب
. جهنّم يصلونها فبئس المهاد . هذا فليذوقوه
حميم وغسّاق . وآخر من شكله أزواج "
وصوّر الله تعالى خسارتهم ، وأنها تظهر على
وجوههم ، وتلوّث أجسادهم فقال تعالى " ويوم
القيمة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم
مسودة أليس في جهنّم مثوى للمتكبرين "
وعرض صورة من صور فوز المتقين فقال
تعالى " وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا
مسهم السوء ولا هم يحزنون "

إن المسؤولية عظيمة جداً ، وأيام الدنيا من
حاسب نفسه فيها ، وعرف طريقه ، كان إلى
الفوز أقرب من الخسارة ، ولقي من النعيم ما
ينسيه معالم الدنيا كلها . ومن آثر هذه الحياة ،
ونسي حساب الله تعالى وقع في المهالك ،
وخسر خسارة المفرطين . قال تعالى " فأما
من طغى . وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي
المأوى . وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس
عن الهوى فإن الجنة هي المأوى " .

إن الموقف بين يدي الله تعالى عظيم ، ولك أن
تتصوّر اليوم الواحد في عرصات القيامة
بخمسين ألف سنة قال تعالى " تعرج الملائكة
والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة " إنه اليوم الذ تتعرّض فيه كل المعالم
للخراب والدمار ، ويبقى حسابك واقعاً حتمياً ،
قال تعالى " يوم تكون السماء كالمهل . وتكون
الجبال كالعهن . ولا يسأل حميم حميماً .
يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب
يًومِئذ ببنيه . وصحبته وبنيه . وفصيلته التي
تؤويه . ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه " .
إن اليوم الذي تقف فيه بين يدي الله تعالى
يصعب تصويره ، يكفيه حجماً أن يلوذ منك
والداك بالفرار ، يفر منك أقرب الناس إليك في
صورة مفزعة يعرضها القرآن كأوضح ما
تكون " يوم يفر المرء من أخيه . وأمه وأبيه .
وصحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن
يغنيه "
تأمّل هذه الصورة ، وأمعن النظر فيها ، تأمل
أقرب الناس إليك اليوم كيف هم أهرب الناس
منك غداً؟ .
إن مواقف الحسرة للمفرطين تبدو في جوارحهم
التي حرصوا على نعيمها تشهد عليهم في
مواقف الحسرات ، وتفضحهم في مواطن
الهلكة والنهايات ، قال الله تعالى " ويوم يحشر
أعداء الله إلى النار فهو يوزعون . حتى إذا
ماجاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصرهم
وجلودهم بما كانوا يعملون . وقالوا لجلودهم لم
شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل
شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون "
كيف يهنأ مسلم دون أن يحاسب نفسه ؟ وهو
يعلم أن مثاقيل الذرة محسوبة عليه ، إن خيراً
فخير وإن شراً فشر ، قال تعالى " فمن يعمل
مثقال ذرة خيراً يره . ومن يعمل مثقال ذرة
شراً يره "
لنحاسب أنفسنا فإنا سَنُكلّم ربنا ليس بيننا وبينه
ترجمان ، قال صلى الله عليه وسلم " ما منكم
من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه
ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم ،
وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدّم ، وينظر
بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه ، فاتقوا
النار ولو بشق تمرة "

لنحاسب أنفسنا لأن أقدامنا لن تزول من مواقف
الحساب إلا بعد سؤال دقيق عظيم ، يقول صلى
الله عليه وسلم " لا تزول قدم عبد يوم القيامة
حتى يسأل عن عمره في ما أفناه ، وعن شبابه
في ما أبلاه ، وعن علمه في ما عمل به ،
وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه" ويقول
صلى الله عليه وسلم : "والله لو تعلمون ما
أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً وما تلذذتم
بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلى الصعدات
تجأرون إلى الله تعالى . وأخبر صلى الله عليه
وسلم أن الشمس تُدنى يوم القيامة من الخلق
حتى تكون منهم بمقدار ميل ، قال سليم بن
عامر الراوي عن المقداد : فوالله ما أدري ما
يعني بالميل ، أمسافة الأرض أم الميل الذي
تكتحل به العين ، قال : فيكون الناس على قدر
أعمالهم في العرق ، فمنهم من يكون إلى كعبيه
، ومنهم من يكون إلى ركبتيه ، ومنهم من
يكون إلى حقويه ، ومنهم من يلجمه العرق
إلجاماً . وأشار بيده إلى فيه .

وأبان صلى الله عليه وسلم عن مواقف القيامة
فقال : "يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب
عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً ، ويلجمهم
حتى يبلغ آذانهم" . وبيّن أنه سمع وجبة ـ أي
صوت حجر ـ فقال : صلى الله عليه وسلم " هل
تدرون ما هذا ؟ قلنا الله ورسوله أعلم . قال :
هذا حجر رمي به في النار من سبعين خريفاً ،
فهو يهوي في النار حتى انتهى إلى قعرها
فسمعتم وجبته . وتحدّث عن حشر الناس فقال
" يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً ،
قلت : يارسول الله الرجال والنساء جميعاً ينظر
بعضهم إلى بعض ؟! قال : ياعائشة الأمر أشد
من أن يهمهم ذلك"
إن مابينننا وبين الله تعالى عظيم ، فهو يعلم
سرنا وجهرنا ، ظاهرنا وباطننا، يرانا في وضح
النهار ، كما يعلم خبايانا في جنح الظلام ، ولن
نغيب عن نظره ، وملائكته يدونون علينا كل
صغيرة وكبيرة . سرائرنا مكشوفة له كما هي
ظواهرنا أو أعظم لبعضنا البعض .
والله المسؤول المرجو أن يجعل
عامنا الجديد عاماً مباركاً ،
وأن يكتب لنا وللأمة الإسلامية فيه
من البركة والتوفيق والنصر والتمكين
ما يفرح به كل مسلم على وجه الأرض .
والحمد لله رب العالمين .
للكاتب /مشعل الفلاحي
كل عام وانتم بخير ولله اقرب وبحياتكم اسعد