ثانيا:اكتئاب ما بعد الوضع
من الناحية الانتشارية، يأتي هذا النوع من الاكتئاب بعد "حزن ما بعد الوضع"، إذ تتراوح نسبته الانتشارية بين 9 و 15 في المئة من حالات الوضع. وعادة تظهر أعراض المرض خلال الثلاثة أو الأربعة أشهر الأولى التي تلي الوضع.وكما ذكرت سابقاً، فإن أعراض الاكتئاب بعد الوضع تشبه الى حد كبير أعراض الاكتئاب الذي قد يصيب المرأة في فترات أخرى من حياتها، غير أنها قد تختلف عن الأعراض الكلاسيكية للاكتئاب، في مضمونها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نرى أثناء الاكتئاب العادي (غير المرتبط مع عملية الوضع) أن المريض يشكو من غياب اللذة والاستمتاع بملذات الحياة التي عادة تجلب له السعادة والاستمتاع، وهذه الظاهرة تسمى علمياً Anhedonia، ومن الأمثلة على ذلك عدم الاستمتاع بالمسلسل التلفزيوني الذي كان عادة يستمتع به.. غير أننا نرى هنا أن الأم لا تفرح ولا تبتهج لمشاهدة وليدها، ولا تداعبه ولا تستمتع بإرضاعه، وحتى قد ترفض مشاهدته. وتكون سريعة البكاء وتفقد المقدرة على النوم، وقد تعاني من قلق ووسواس فيما يخص الحالة الصحية للوليد. وتكون منعزلة وطاقتها الوظيفية منخفضة جداً، وتفقد الشهية للأكل، والمقدرة على التركيز وبخاصة في رعايتها لطفلها، وقد لا تستطيع العناية بوليدها مطلقاً ما يؤدي الى شعورها بالذنب وتقريع الذات، ويكون مزاجها منخفضاً مع كثرة في البكاء، والشعور بالإرهاق. وتنتابها أفكار انتحارية، أو أفكار لإيذاء الوليد، غير أنها لا تقدم على الانتحار أو على إيذاء وليدها.وإضافة الى الأسباب والعوامل العامة المذكورة في مقدمة الموضوع، فإن هنالك أسباب خاصة قد تلعب دورها في حدوث "اكتئاب بعد الوضع" وهي: المرأة البكرية فوق سن 30 عاماً تكون أكثر عرضة للإصابة بهذا النوع من الاكتئاب، مقارنة مع غيرها من النساء الحوامل. ناهيك عن أن المشاكل العائلية المتنوعة، مثل: عدم الانسجام العائلي والتوتر والمسؤولية الملقاة على عاتق الأم تجاه وليدها، ووجود ماض كئيب (أي أنها سبق وأصيبت بالاكتئاب قبل الزواج أو قبل الحمل أو أثناء الحمل) كلها قد تؤدي الى الإصابة بالاكتئاب. وأخيراً قد يؤدي الحمل غير المرغوب به (أو غير المخطط له) وعدم وجود الدعم والحب والحنان من الأهل، وتحديداً من شريك الحياة، إلى إصابة الأم بالاكتئاب.وقبل البدء بالعلاج يجب استثناء وجود أسباب أو حالات طبية (عضوية) تقف وراء معاناة المرأة من الاكتئاب، وأذكر من هذه الحالات، على سبيل المثال لا الحصر، أمراض الغدة الدرقية وفقر الدم وأمراض أخرى لا مجال لذكرها هنا.وكلما بدأنا بالعلاج مبكراً كلما كانت النتيجة جيدة. وعدم نجاح العلاج قد يؤدي الى تردي الرابطة العاطفية بين الأم وطفلها، أو بينها وبين شريك حياتها. ناهيك عن أن التأخر في بدء العلاج قد يؤدي الى تدهور الوضع الصحي للأم، من جهة، ولوليدها من جهة أخرى. كذلك قد يتعرض تطور الطفل الاجتماعي والأكاديمي مستقبلاً للخطر.وينقسم علاج الاكتئاب الى ثلاثة أقسام، هي: العلاج النفسي والعلاج بالصدمة الكهربائية والعلاج بالأدوية:العلاج النفسي: يستخدم هذا النوع من العلاج في حال معاناة المريضة من أعراض اكتئاب طفيفة أو متوسطة. وفي هذه الحالة يمكن اللجوء الى استخدام العلاج النفسي الفردي أو الجماعي، وبخاصة العلاج الإدراكي – السلوكي Cognitive-Behavioral. كذلك يمكن اللجوء إلى أسلوب جماعات الدعم التثقيفي النفسي Psychoeducational. وهذه الأنواع من الأساليب العلاجية مناسبة للأمهات اللواتي يرضعن أطفالهن ويرغبن في تجنب تناول الأدوية والعقاقير المضادة للاكتئاب.العلاج بالأدوية: تستخدم الأدوية المضادة للاكتئاب في حالات الاكتئاب المعتدلة أو الشديدة، أو عندما لا تستجيب المريضة للعلاج النفسي. كذلك يمكن الجمع بين العلاج النفسي والعلاج بالأدوية، أي يمكن استخدامهما معاً.وتبقى الأدوية المضادة للاكتئاب الاختيار الأول في علاج "الاكتئاب ما بعد الوضع"، يلي ذلك استخدام هرمون الاستروجين بالتزامن مع مضادات الاكتئاب أو لوحده.وعادة تبدأ الأم بالتحسن (تتلاشى أعراض الاكتئاب) بعد تناول الأدوية المضادة للاكتئاب خلال فترة تتراوح بين أسبوعين وثلاثة أسابيع. لذلك يمكن استخدام الأدوية المضادة للقلق مثل "كلونازبام" Clonazepam و "لورازبام" Lorazepam الى حين بدء مفعول الأدوية المضادة للاكتئاب، وخصوصاً في حال معاناة الأم من الأرق والقلق.غير أن التحسن الكامل قد يحدث بعد شهرين من ابتداء تناول الدواء، ويجب أن لا ننسى دائماً أن الدعم والحب والحنان المقدم من أهل المريضة، وخصوصاً الزوج، يلعب دوراً كبيراً في إسراع التحسن. وفي حال كون هذه هي المرة الأولى التي تعاني منها الأم من "الاكتئاب ما بعد الوضع"، فإنه يجب الاستمرار بالعلاج لمدة تتراوح بين سبعة أشهر و 13 شهراً.وفي حال كانت الاستجابة للعلاج جزئية، فإنه من الممكن زيادة جرعة الدواء.وأما في حال كان الاكتئاب من النوع المتكرر والشديد، فإنه يجب الاستمرار بتناول الدواء لمدة أطول من ذلك بكثير، وهذه تحدد من قبل الطبيب المعالج.وتعطى الأولوية للأدوية المضادة للاكتئاب التالية: "فلوكسيتين" Fluoxetine و"سيرترالين" Sertraline و "باروكسيتين" Paroxetine و Citalopram و Escitalopram.ويلي الأدوية المذكورة سابقاً، أهمية الأدوية التالية: Venlafaxine و Duloxetine وأخيراً يمكن إعطاء دواء Nortriptyline.الصدمة الكهربائية: في حال عدم استجابة المريضة للعلاج النفسي أو للعلاج بالأدوية، وفي حال كون الاكتئاب شديد الوقعة ويتصاحب مع أفكار انتحارية، يمكن استخدام أسلوب العلاج بالصدمة الكهربائية Electroconvulsive Treatment ويرمز له بالأحرف الثلاث ECT، وهو عبارة عن إحداث نوبة تشنجات عضلية (نوبة صرع) عند المريضة عن طريق تمرير تيار كهربائي منخفض الجهد، عبر دماغها. ويعتقد أن الصدمة الكهربائية هذه تحدث تغيرات كيميائية في الدماغ ما يؤدي الى تحسن حالتها النفسية. وتعطى المريضة ثلاث جلسات أسبوعياً لمدة تتراوح بين أسبوعين وأربعة أسابيع.وكما ذكرت سابقاً، فإن معظم النساء تتحسن حالتهن خلال 6-12 شهراً. وهنا أشدد، على أن الإرشادات والنصائح المعطاة للأهل وللمريضة من قبل المرشدين الاجتماعيين والاختصاصيين النفسانيين والعاملين في مجال الصحة النفسية المجتمعية، إضافة الى الحب والحنان المقدم من قبل الأهل والزوج، كل ذلك يلعب دوراً مهماً في سرعة التحسن وثباته.وأود أن أشير أيضاً إلى أن نسبة تكرار الاكتئاب في الحمل والولادة التالية قد تصل الى 21 في المئة. لذلك يجب دعم المرأة أثناء فترة الحمل، وما بعد الوضع، لوقايتها من الإصابة بأية اضطرابات مزاجية بعد الولادة.يتبببببببع