يواجهها أطباء التوليد ويتقاسمون أسرارها مع الأمهات
أحداث لا تُنسى في غرفة الولادة
أمور كثيرة تقع في تلك الغرفة البيضاء المعقّمة، إلا أن ما يجري داخلها لا يخرج إلى العلن ويبقي سراً بين الأم والطبيب. إنها غرفة الولادة. ذاك المكان الذي يشهد في كل لحظة خروج روح جديدة إلى هذا العالم. فما الذي يحصل فيها؟
تختلف مهنة الطبّ في المضمون والممارسة عن بقيّة المهن. هي مهنة المسؤولية المرتبطة بأرواح الناس وصحّتهم. لذلك نرى الأطباء يحتفظون بكثير من الأسرار لأنفسهم، عن صحة مريضهم أو عن حالته أو عمّا يجري معهم داخل غرفة العمليّات. وفي هذا الإطار، قد يكون الطبيب النسائي من أكثر الأطباء الذين يتعرّضون لضغوط نفسيّة بحكم طبيعة عملهم مع النساء اللواتي يتحضّرن لكي يصبحن أمّهات. ولأن الأمر ليس بالسهولة التي يظنّها البعض، يؤكّد أطباء النساء، أن هناك حالات كثيرة لا ينسونها مطلقاً، لأنها تترك في أنفسهم ذكريات مؤثّرة جداً. هذه الذكريات ليست حزينة بالضرورة، فبعضها يحمل لهم الفرح والسعادة، اللذين قد يتمنى بعضهم لو أنه يعيشهما أبداً في حياته المهنيّة. في هذا التحقيق، يروي بعض الأطبّاء أحداثاً جميلة وبشعة صادفوها على مدى سنوات ممارستهم مهنة الطب، حيث يكسرون بعضاً من طوق السريّة الذي كان يقف خارج غرفة عمليات الولادة، ويحكون قصصاً كثيرة لا يختبرها غيرهم. فماذا يقول طبيب النساء، حين يقرر أن يحكي عن الأحداث التي تصادفه داخل غرفة الولادة؟ ما هذه الأحداث؟ متى جرت؟ و لماذا يتذكرها الأطباء دون غيرها؟
اختبار
«لكل ولادة مخاطرها، لذا. يجب أن يظلّ الطبيب متيقّظاً لاحتمال حصول مضاعفات بنسبة 5 إلى 10 في المئة». بهذه الكلمات، تبدأ استشارية إخصاب وأمراض النساء والتوليد الدكتورة حسنيّة قرقاش كلامها عن موضوع التحقيق. وتقول: «من خلال خبرتي التي تتعدى الـ18 عاماً، أستطيع أن أؤكّد أن الطبيب النسائي لا يعرف ما الذي ينتظره في الغرفة البيضاء». وإذ تروي حكاية إحدى الحوادث التي حصلت معها، تقول: «في إحدى المرّات التي لا أنساها، حيث كنت لا زلت طبيبة مبتدئة، واجهت حادثة فظيعة. فقد وصلت امرأة إلى المستشفى وهي تنزف بشدّة بعد أن أنجبت وهي في الطريق إلينا. وكان معدل ضغط الدم عندها صفراً، أي كانت شبه ميتة لا محالة، فحوّلتها إلى غرفة العمليات، بعد أن ناديت الأطباء الزملاء المتخصصين في التخدير والضغط والقلب وغيرهم، إلاّ انه لم يكن قد مضى نصف ساعة على وصولها، حتى كانت قد فارقت الحياة». تتذكّر الدكتورة حسنيّة بأسى تلك الحادثة، وتردد قائلة: «لقد تأثّرت كثيراً بما جرى في ذلك اليوم، لأنها كانت الحادثة الأولى التي تحصل معي، ولأني كنت أعرف تلك المرأة. فأنا أرتبط عاطفياً بشكل كبير بمريضتي، وأحاول جاهدة الوقوف إلى جانبها للتخفيف عنها والتقليل من الخوف الذي يتملّكها لحظة دخولها غرفة الولادة». تضيف: «لقد خفف الاستشاري الذي كان معي من وقع الحادثة، حين أكّد لي أنني قمت بواجبي على أكمل وجه مع تلك المسكينة، ونصحني بأن أقتنع بأننا كأطبّاء نقوم بما علينا، ولكننا لا نستطيع أن نقرر حياة الناس».
حرمان
من ناحيته، يؤكّد استشاري أمراض النساء والتوليد والعقم في أبوظبي والأستاذ في كليّة الطبّ في «جامعة عين شمس» الدكتور ولاء فخر (يزاول المهنة منذ 25 عاماً) أن «على الطبيب ألاّ يتوقّع ما يحدث في غرفة الولادة»، موضحاً أن «لكل ولادة خصوصيتها ووضعها، وهي في الغالب لا تتشابه مع أخرى». ويقول: «حدثت معي مرة قصة لا أنساها، تعود إلى سيدة كانت قد أنجبت 4 مرات، ولم يسلم لها إلاّ طفل وحيد. ذلك أن أولادها كانوا يموتون فوراً». يضيف: «حصل أن كانت هذه السيدة حاملاً للمرة الخامسة، عندما دخلت غرفة الولادة، وقد توفي طفلها في أحشائها قبل أن تنهي شهرها الثامن». يصمت الدكتور فخر للحظات، ثم يكمل كلامه بصوت منخفض وحزين. يضيف: «لقد كانت تلك السيدة في الأربعين من عمرها، وكنت متأثّراً بشدة وأنا أنظر إلى الطفل الميت، وكيف لا؟ وقد حُرمَت المرأة من ذلك الشعور الذي يتملّك كل أم وهي تحتضن وليدها النابض بالحياة». يتابع: «لقد حُرمت من السعادة. هذا ما فكرت فيه حين تبادر إلى ذهني أنها غير قادرة على الحمل مجدداً بسبب ظروفها الصحيّة». ويلفت الدكتور فخر إلى أنه «يجب أن يضع الطبيب نفسه مكان المريضة، ليشعر معها، فإذا لم يحسّ بها وبمعاناتها فلن ينجح كطبيب». وقبل أن يكمل كلامه، يتذكّر حادثة طريفة يرويها بحماسة، ويقول: «أجريت مؤخّراً عمليّة قيصرية لإحدى السيدات، وحين أخرجت طفلها، تفحّصتُه كالعادة ثم التفت إلى طبيب الأطفال لأناوله إياه، إلاّ أنني فوجئت بأن الطفل يقبض على إصبعي بقوّة شديدة ويرفض تركها. أقسم بأنه كان من الصعب أن أفلت من قبضته، فغلبني شعور لا يوصف. مثل هذا الشعور هو الذي ينسينا كأطبّاء، ضغوط المهنة ومشاكلها. ليس هنالك أجمل من إخراج روح إلى هذه الدنيا، لأن في ذلك سعادة كبيرة للطبيب وسعادة أكبر للأهل».
إنسانيّة
من جهتها، تحكي المتخصصة في أمراض النساء والتوليد، الدكتورة أميرة عبدالستّار، عن واقعتين أثّرتا في حياتها خلال ممارستها مهنة الطب التي تعمل فيها منذ عشرين عاما، تقول: «جاءتني سيدة باكستانية لتلد طفلها الثامن، وكنت أعرف أنها أم لثماني بنات، فأدخلتها غرفة الولادة من غير أن أجري لها الصورة التلفزيونيّة بسبب اشتداد الطلق عليها». تضيف: «أقسم أني طوال العمليّة كنت أدعو أن يرزقها الله بولد لتفرح، واستجاب رب العالمين لي، وأخرجت طفلاً صبيّاً، فما كان من السيدة ولشدّة فرحتها إلاّ أن تحاول رفع جسدها لرؤية ولدها، متناسية وضعها. كان مشهداً لا يمكن محوه من الذاكرة». واقعة ثانية ترويها الدكتورة عبدالستّار، تقول أيضاً إنها لا تنساها مطلقاً، وهي حصلت مع امرأة يمنيّة كانت تعاني الأنيميا وترفض أن ينقل إليها دم، على الرغم من خطورة الأمر على نفسها وعلى طفلها. تتابع: «لقد أقنعتها بصعوبة بأن تحصل على الدم مني شخصياً، فوافقت وتبرّعت لها بالكمية المطلوبة، وتحسّنت حالتها الصحيّة وأنجبت طفلتها التي تبلغ اليوم التاسعة من العمر». تأخذ الدكتورة عبدالستّار نفساً عميقاً، وتشير إلى أنها «حين ألتقي هذه السيدة من فترة إلى أخرى وتكون الأخيرة بصحبة ابنتها، تعلّق الابنة قائلة لي بأنها تعتبرني بمثابة أمها أيضاً، لأني وهبتها من دمي». «من لا يحبُّ هذه المهنة لن يبرع فيها»، تقول الدكتورة عبدالستّار، وتضيف: «أنا أعشق عملي، ولا أجد نفسي إلاّ طبيبة نسائية». وتتابع قائلة: «يصل بي الأمر أحياناً إلى أن أتسلل ليلاً من سريري، وأقوم إلى الهاتف لأطمئن على إحدى المريضات. وفي أحيان أخرى أبكي مع المريضة وأتأثر لمعاناتها. ذلك، أنه يستحيل على الطبيب أن يمارس المهنة ويتجرّد من إنسانيته».
حالات غريبة
تمارس استشارية الغدد الصمّاء والعقم في «هيئة الصحّة في دبي» الدكتورة عواطف البحر مهنتها منذ ستة عشر عاماً. وهي إذ تشير إلى أن «من الطبيعي أن يصادف الطبيب الكثير من الحوادث في غرف الولادة»، تكشف أن أكثر ما أثر فيها، هو حالة امرأة «أدخلناها غرفة الولادة فور وصولها إلى المستشفى، من دون أن نحظى بالوقت لإجراء صورة تلفزيونيّة لها لمعرفة وضع الجنين في بطنها، لأنها كانت توشك على الإنجاب. وكانت قد أفهمتنا أنها حامل بتوأمين». تضيف: «تحضّرنا أنا وطبيب التخدير والممرضون المساعدون لاستقبال طفلين، إلاّ إننا فوجئنا بها تصرخ بعد أن أخرجنا الطفل الثاني، بأنها حامل بثلاثة وليس باثنين فقط». تتوقّف الدكتورة البحر عن متابعة حديثها، وكأنها تستعيد ذكريات تلك اللحظات في عقلها، تكمل: «كانت تعرف، ولكنها خشيت إن أخبرتنا ألاّ نستقبلها، وكانت محقّة، لأننا لم نكن مستعدين أو مجهّزين لتوليد ثلاثة أطفال ولادة طبيعيّة، لأنه في حالة مثل هذه، نجري عملية قيصرية، لكن الله كان إلى جانبنا وجانبها، لأن أطفالها الثلاثة، كانوا صغار الحجم، ولم تحدث أي مضاعفات». ومن الحالات الشائعة التي تحصل مع طبيب التوليد، تذكر الدكتورة البحر: «خروج الطفل من رحم أمه بقدميه أولاً بدل أن يخرج رأسه، فيعلق كتفاه وتتعسّر الولادة». وتقول: «أذكر أنني أجريت عمليّة من هذا النوع في ألمانيا في بداية ممارستي المهنة، واضطررت حينها إلى كسر ذراع الطفل لإخراجه، والحمدلله أن كل شيء انتهى وقتها على خير، حيث الأم كانت بصحّة جيدة، والطفل تمت معالجته وخرج من المستشفى في صحة جيدة». تسكت الدكتورة البحر من جديد، ثم تضيف: «مثل هذه الأحداث لا تُنسى أبداً، ولا يعرف بها إلاّ الطبيب النسائي وصاحبة العلاقة». تتابع: «في الواقع، لا يمكنني أن أصوّر التوتّر الذي يخيّم على غرفة الولادة في بعض الأحيان، ولكني كطبيبة لا أتحدّث عنها حتى لا أثير الرعب في النفوس، إنما من المهم أن أؤكّد أنني بطبعي أتعاطف مع المريضة وأحفز مشاعري كلّها إلى مساندتها وطمأنتها قدر الإمكان».
زائدة دودية
بابتسامة تخرج من القلب، يتحدث طبيب الجراحة النسائية والولادة وعلاج العقم الدكتور أيمن عقّاد، عن حادثة عايشها في ألمانيا، وكان حينها طبيباً مبتدئاً، يقول: «تخرّجت طبيباً منذ 25 عاماً، وبعد عامين على تخرّجي، أُدخلت فتاة في الخامسة عشرة من عمرها المستشفى وهي في حالة إعياء شديد، وكانت بصحبة والدتها، التي اعتقدت أن ابنتها تعاني الزائدة الدودية، غير أننا اكتشفنا أنها حامل في الشهر التاسع، وتعاني الطلق وتوشك على الإنجاب، فأدخلتها غرفة الولادة، وجرت الأمور على أحسن وجه». يضحك الدكتور عقاد، وهو يتابع سرد قصته، ويضيف: «عندما خرجتُ من غرفة الولادة، تلقّفتني الأم وسألتني عما إذا كنت قد استأصلت الزائدة لابنتها، فأخبرتها بأني طبيب نسائي، وأن ابنتها رُزقت بولد، فذُهلت ولم تصدّقني. وعندما سألتها كيف أنها لم تلاحظ انتفاخ بطن ابنتها، أجابت بأنها كانت متأكّدة من أنها تعاني السمنة، ولم يخطر في بالها أمر حملها على الإطلاق». ويتحدث الدكتور عقّاد عن حادثة ثانية شهدها، يقول: «قبل فترة، أشرفت على ولادة الطفلة الثامنة لامرأة تركيّة لديها سبع بنات، ورأيت القابلة التي تساعدني تواسيها، ظنّاً منها أنها كانت تأمل في إنجاب ولد، فما كان من السيدة إلاّ أن أجابت: على ماذا المواساة؟ ها أنا قد أنجبت الولد الثامن، وحين لاحظت الاستغراب على وجوهنا أوضحت: هذه الطفلة ستُدخل إلى بيتي الشاب الثامن وسيكون بمثابة الابن لي». لقد أثّرت فـيّ كثيراً تلك المرأة». يتابع د. عقاد قائلاً، ويشير إلى أن «ما يجري في غرفة الولادة يحفز مشاعرنا وتعاطفنا مع المريضة، ويفصلنا عن العالم الخارجي كلّياً. والأهمّ أن له خصوصيّته التي يجب ألا يأتي طبيب على ذكرها، لأنها لا تعني إلاّ مريضته».
ذكريات لا يمكن محوها
أما الاستشارية النسائية الدكتورة نجاة هزيمة (تمارس المهنة منذ أكثر من 15 عاماً)، فتشير إلى أنه «مع كل ولادة جديدة، يتوقّع الطبيب النسائي حالات عدّة، منها ما هو ممزوج بالخوف والارتباك، أو بالسعادة والهدوء، التي تفرضها اللحظة التي تتطلّب انتباهه ودقّته». وتقول: «بالطبع، هناك مَشاهد لا يمكننا نسيانها، من بينها قصة جرت معي وأثّرت فـيّ كثيراً، عن امرأة جاءت تلد عندي، وأخبرتني أن زوجها أقسم بأن يطلّقها إذا أنجبت له بنتاً». تضيف: «المسكينة، وضعت طفلة، وبدلاً من أن تفرح وتطير من السعادة، رأيت وجهها يتلوّن بحزن مقيت، وهو مشهد لا يمكن تجاوزه بسهولة». تفكّر الدكتورة هزيمة مليّاً قبل أن تشير إلى أن «من بين الأحداث الشائعة والتي توتّر الطبيب بحق، حين تدخل المريضة غرفة الولادة وهي تصرخ: «قلبي قلبي». ما يعني أنها تُصاب بذبحة قلبية، بسبب نزيف شديد أو غير ذلك، وهي حالة مرعبة بلا شكّ للطبيب، وتستدعي أن يتعامل معها بحرص كبير». «في كل الأحوال، تبقى غرفة الولادة غرفة الأحداث السريعة»، تقول د. هزيمة، لافتة إلى أن «بعض هذه الأحداث لا يعلق بذهن الطبيب، وبعضها يستمرُّ معه كذكرى لا يمكنه محوها، وهذا يرتبط بالطبيب نفسه وبمدى ارتباطه بمريضته».
ذكور
في حادثة طريفة، يذكر استشاري الأمراض النسائية وجراحة المنظار الدكتور إسلام صدقي (يزاول مهنة الطب منذ 25 عاماً)، عندما أصر أحد الرجال على أن يرافق زوجته إلى غرفة الولادة ليشهد عملية الوضع، ويقول: «وافقت على ذلك بعد أن رأيت إصراره الشديد». يضيف: «في الداخل انصرفتُ إلى المرأة لأهتم بولادتها إلى أن وضعت طفلها، فحملته بين يديّ وتأكدت من أن كل الأمور بخير. وفي تلك اللحظة، التفتُّ إلى الزوج لأريه ابنه فوجدته وقد كان مغمى عليه على الأرض، فأسرع دكتور التخدير لينجده وينعشه، بينما تابعت أنا عملي مع مريضتي». كما يتذكّر الدكتور صدقي ما حصل معه خلال فترة التمرين التي أمضاها في أميركا، فيقول: «جاءتني مرّة، فتاة في السادسة عشرة من عمرها، إلى قسم الطوارئ وكانت تصرخ من الألم بشكل هستيري. عرفت فوراً أنها أوجاع مخاض، لكنها كانت تُنكر أنها حامل، خوفاً من والدتها التي كانت ترافقها، وبقيت تنكر الأمر حتى بعد ولادة طفلتها، فاستدعينا طبيباً نفسياً ليساعدها، ويعمل على تحسين مشاعرها، ولم يكن بالأمر السهل». يضيف ممازحاً: «هذه المهنة تحفر في القلب أحداثاً لا تنسى، وتقرّبني من الناس كثيراً». ويلفت إلى أن «بعضهم يتفاءل بأن النساء اللواتي يلدن عندي ينجبن الذكور بنسبة 90 في المئة». ويقول: «بصراحة، لا يضيرني الأمر، مادام أنه يحمل السعادة إلى قلوب المعنيين به». ويعود ليقول بجدية: «يعرف أهل بيتي أنني لا آتي على ذكر ما يحصل في العمل، علماً أنني أناقش موضوعات عدّة تحصل معي في غرفة الولادة مع الزملاء الدكاترة، بقصد أخذ العبر وتبادل الخبرات».