

فى قول الله تعالى (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن فى أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير)
هذا أمر من الله تعالى للنساء اللاتى يُتوفى عنهن أزواجهن أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال , وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالإجماع ومستندة فى غير المدخول بها عموم الأية الكريمة ,
وفى الحديث الذى رواه الإمام أحمد وصححه الترمذى أن ابن مسعود سُءل عن رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها ولم يفرض لها فترددوا إليه مرارا فى ذلك فقال : أقول فيها برأيى فإن يك صوابا فمن الله وإن يك خطأ فمنى ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه : لها الصداق كاملا وفى لفظ لهل صداق مثلها ولا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث , فقام معقل بن يسار الأشجعى فقال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قضى به فى بروع بنت واشق, ففرح عبد الله بذلك فرحا شديدا ,
ولا يخرج من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها وهى حامل فإن عدتها بوضع الحمل ولو لم تمكث بعده سوى لحظة لعموم قوله تعالى (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) والله تعالى أعلى وأعلم ,
وكذلك يُستثنى من ذلك الزوجة إذا كانت أمة عدتها على النصف من عدة الحرة شهران وخمس ليال على قول الجمهور لأنها كانت على النصف من الحرة فى الحد فكذلك على النصف منها فى العدة , ولكن من العلماء كمحمد بن سيرين وبعض الظاهرية من يسوى بين الزوجات الحرائر والإماء فى هذا المقام لعموم الأية.
ولأن العدة من باب الأمور الجبلية التى تسوى فيها الخليقة , وقد ذكر سعيد بن المسيب وأبو العالية وغيرهما , أن الحكمة فى جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا لاحتمال اشتمال الرحم على حمل فإذا انتظر به هذه المدة إن كان موجودا كما جاء فى حديث ابن مسعود الذى فى الصحيحين وغيرهما " إن خلق أحدكم يُجمع فى بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يُبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح " فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر والاحتياط بعشر بعدها لما قد ينقُض بعض الشهور ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه والله تعالى أعلى وأعلم ...
وقال بعض العلماء ولو مات وهى حائض أجزأتها , وقال مالك : فلو كانت ممن لا تحيض فثلاثة أشهر , وقال الشافعى والجمهور : شهر وثلاثة أحب إلى والله أعلم ...
وقوله تعالى (فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن فى أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير) يُستفاد من هذا فى وجوب الحداد على المتوفى عنها زوجها مدة عدتها لما ثبت فى الصحيحين من غير وجه عن أم حبيبة وزينب بنت جحش أمى المؤمنين أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال " لا يحل لإمرأة تؤمن بالله واليوم الأخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا " والغرض أن الإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحلى وغير ذلك وهو واجب فى عدة الوفاة قولا واحدا ولا يجب فى عدة الرجعية قولا واحدا وهل يجب فى عدة البائن فيه قولان : ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن سواء فى ذلك الصغيرة والآيسة والحرة والأمة والمسلمة لعموم الأية , والله أعلى وأعلم ...
(فإذا بلغن أجلهن) أى انقضت عدتهن , (فلا جناح عليكم) أى على أوليائها (فيما فعلن فى أنفسهن) يعنى النساء اللاتى انقضت عدتهن (فلا جناح عليكم فيما فعلن فى أنفسهن بالمعروف) قال النكاح الحلال الطيب والله أعلى وأعلم ...

وفى قوله تعالى (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أوأكننتم فى أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما فى أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم )
يقول تعالى (ولا جناح عليكم) أن تُعرضوا بخطبة النساء فى عدتهن من وفاة أزواجهن من غير تصريح , (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء) عن ابن عباس قال التعريض أن يقول إنى أريد التزويج إنى أحب إمرأة من أمرها ومن أمرها يعرّض لها بالقول بالمعروف ولا ينتصب للخطبة أى ولا ينتصب لها ما دامت فى عدتها , فأما المطلقة فلا خلاف فى أنها لا يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها ولا التعريض لها والله أعلى وأعلم ...
وقوله تعالى (أو أكننتم فى أنفسكم) أى أضمرتم فى أنفسكم من خطبتهن , ولذلك قال تعالى (علم الله أنكم ستذكرونهن) أى فى أنفسكم فرفع الحرج عنكم فى ذلك ثم قال تعالى (ولكن لا تواعدوهن سرا) قال بعض المفسرين يعنى الزنا , وقال البعض الأخر أى لا تقل لها إنى عاشق وعاهدينى أن لا تتزوجى غيرى ونحو هذا وكذا روى عن سعيد بن جبير والشعبى وعكرمة وغيرهم , وقال أخرون أى يأخذ عهد المرأة وهى فى عدتها أن لا تنكح غيره فنهى الله عن ذلك وقدّم فيه وأحل التعريض بالخطبة والقول بالمعروف , وقال ابن زيد هو أن يتزوجها فى العدة سرا فإذا حلت أظهر ذلك , وقد يُحتمل أن تكون الأية عامة فى جميع ذلك , ولهذا قال تعالى (إلا أن تقولوا قولا معروفا) قال ابن عباس : يعنى به ما تقدم به إباحة التعريض كقوله إنى فيك راغب ونحو ذلك ,
وقال محمد بن سيرين : قلت لعبيدة : ما معنى (إلا أن تقولا قولا معروفا) قال : يقول لوليها : لا تسبقنى بها يعنى لا تزوجها حتى تُعلمنى , وقوله تعالى (ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله) يعنى ولا تعقدوا العقدة بالنكاح حتى تنقضى العدة , وقوله تعالى (واعلموا أن الله يعلم ما فى أنفسكم فاحذروه) توّعدهم على ما يقع فى ضمائرهم من أمور النساء وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر ثم لم يؤيسهم من رحمته ولم يُقنطهم من عائدته فقال (واعلموا أن الله غفور حليم)
وفى قوله تعالى ( لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضه ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين )
أباح تبارك وتعالى طلاق المرأة بعد العقد عليها وقبل الدخول بها , وقال ابن عباس وغيره : المس النكاح بل يجوز أن يطلقها قبل الخول بها والفرض لها إن كانت مفوضة , وإن كان فى هذا انكسار لقلبها ولهذا أمر تعالى بإمتاعها وهو تعويضها عما فاتها بشىء تُعطاه من زوجها بحسب حاله على الموسع قدره وعلى المقتر قدره , وقال سفيان الثورى عن عكرمة عن ابن عباس قال : متعة الطلاق أعلاه الخادم ودون ذلك الورق ودون ذلك الكسوة ...
وقال الشافعى فى الجديد : لا يُجبر الزوج على قدر معلوم إلا على أقل ما يقع عليه اسم المتعة وأحب ذلك إلىّ أن يكون أقله ما تُجزىء فيه الصلاة , وقال فى القديم : لا أعرف فى المتعة قدرا إلا أنى أستحسن ثلاثين درهما ...
وقد اختلف العلماء أيضا هل تجب المتعة لكل مطلقة أو إنما تجب المتعة لغير المدخول بها التى لم يُفرض لها على أقوال : أحدها أنها تجب المتعة لكل مطلقة لعموم الأية كقوله تعالى (وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين) أى عموم كل المطلقات , والقول الثانى : أنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس وإن كانت مفروضا لها لقوله تعالى (يأيها الذين ءامنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا) والقول الثالث : أن المتعة إنما تجب للمطلقة إذا لم يدخل بها ولم يفرض لها فإن كان قد دخل بها وجب لها مهر مثلها إذا كانت مفوضة وإن كان قد فرض لها وطلقها قبل الدخول وجب لها عليه شطره فإن دخل بها استقر الجميع وكان ذلك عوضا لها عن المتعة وإنما المصابة التى لم يُفرض لها ولم يُدخل بها فهذه التى دلت هذه الأية الكريمة على وجوب متعتها , ومن العلماء من استحبها لكل مطلقة ممن عدا المفوضة المفارقة قبل الدخول وهذا ليس بمنكور وعليه تُحمل آية التخبير فى الأحزاب ولهذا قال تعالى (على الموسع قدره وعلى المقدر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين) ومن العلماء من يقول إنها مُستحبة مطلقا ...
قال ابن أبى حاتم عن أبى اسحاق عن الشعبى قال : ذكروا له المتعة أيُحبس فيها فقرأ (على الموسع قدره وعلى المقدر قدره) قال الشعبى : والله لو كانت واجبة لحبس فيها القضاة والله تعالى أعلى وأعلم...
