
فى قول الله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله فى أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الأخر وبعولتهن أحق بردهن فى ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم )
هذا أمر من الله سبحانه وتعالى للمطلقات المدخول بهن من ذوات الأقراء بأن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء أى بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء ثم تتزوج إن شاءت , وقد أخرج الأئمة الأربعة من هذا العموم الأمة إذا طلقت فإنها تعتد عندهم بقرأين لأنها على النصف من الحرة والقرء لا يتبعض فكمل لها قرءان , وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال : " طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان " رواه أبو داود والترمذى , وعدة الأمة عدة الحرة لعموم الأية ولأن هذا أمر جبلى فكان الحرائر والإماء فيه سواء ,
وقد اختلف السلف والخلف والأئمة فى المراد بالأقراء ما هو على قولين , أحدهما أن الأقراء هى الأطهار , واستدل عليها الكثير من المفسرين والأئمة بقول الله تعالى (فطلقوهن لعدتهن)
أى فى الأطهار ولما كان الطهر الذى يطلق فيه محتسبا دل على أنه أحد الأقراء الثلاثة المأمور بها ولهذا قالوا : إن المعتدة تنقضى عدتها وتبين من زوجها بالطعن فى الحيضة الثالثة وأقل مدة تصدق فيها المرأة فى انقضاء عدتها اثنان وثلاثون يوما ولحظتان ,
والقول الثانى : أن المقصود بالأقراء الحيض فلا تنقضى العدة حتى تطهر من الحيضة الثالثة زاد آخرون وتغتسل منها وأقل وقت تصدق فيه المرأة فى انقضاء عدتها ثلاثة وثلاثون يوما ولحظة , والله تعالى أعلى وأعلم ..
وقوله تعالى (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله فى أرحامهن) أى من حبل أو حيض , وقوله تعالى (إن كن يؤمن بالله واليوم الأخر) تهديد لهن على خلاف الحق ودل هذا على أن المرجع فى هذا إليهن لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتهن ويتعذر إقامة البينة غالبا على ذلك فردّ الأمر اليهن وتوعدن فيه لئلا يخبرن بغير الحق إما استعجالا منها لانقضاء العدة أو رغبة منها فى تطويلها لما لها فى ذلك من المقاصد فأمرت أن تخبر بالحق من ذلك من غير زيادة ولا نقصان
وقوله تعالى (وبعولتهن أحق بردهن فى ذلك إن أرادوا إصلاحا) أى وزوجها الذى طلقها أحق بردها ما دامت فى عدتها إذا كان مراده بردها الاصلاح والخير وهذا فى الرجعيات , فأما المطلقات البوائن فلم يكن حال نزول هذه الأية مطلقة بائن وإنما كان ذلك لما حصروا فى الطلاق الثلاث فأما حال نزول هذه الأية , فكان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة فلما قصروا فى الأية التى بعدها على ثلاث تطليقات صار للناس مطلقة بائن وغير بائن ,
وقوله تعالى (ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف) أى ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن فليؤد كل واحد منهما إلى الأخر ما يجب عليه بالمعروف ,
كما ثبت فى صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال فى خطبته فى حجة الوداع : " فاتقوا الله فى النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف " , وقوله تعالى (وللرجال عليهن درجة ) أى فى الفضيلة فى الخلق والخُلق والمنزلة وطاعة الأمر والإنفاق والقيام بالمصالح والفضل فى الدنيا والأخرة ,
وقوله تعالى (والله عزيز حكيم) أى عزيز فى انتقامه ممن عصاه وخالف أمره حكيم فى أمره وشرعه وقدره ...

وفى قوله تعالى (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما ءاتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون)
تلك الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الأمر فى ابتداء الاسلام من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة ما دامت فى العدة , فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات قصرهم الله إلى ثلاث طلقات وأباح الرجعة فى المرة والثنتين وأبانها بالكلية فى الثالثة , فقال تعالى (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) أى إذا طلقتها واحدة أو اثنتين فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية بين أن تردها إليك ناويا الإصلاح بها والإحسان إليها وبين أن تتركها حتى تنقضى عدتها فتبين منك وتطلق سراحها محسنا إليها لا تظلمها من حقها شيئا ولا تضار بها ..
وعن أنس بن مالك قال : جاء رجل إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) فقال : " يا رسول الله ذكر الله الطلاق مرتين فأين الثالثة ؟ قال " إمساك بالمعروف أو تسريح بإحسان "
وقوله تعالى (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما ءاتيتموهن شيئا) أى لا يحل لكم أن تضاجروهن وتضيقوا عليهن ليفدين منكم بما أعطيتموهن من الأصدقة أو ببعضه , فأما إن وهبته المرأة شيئا عن طي نفس منها فقد قال تعالى (فإن طبن لكم شىء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا)
وعن ثوبان أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال " أيما إمرأة سألت زوجها طلاقا فى غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة "
وقوله تعالى (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) أى من الذى أعطاها لتقدم قوله (ولا تأخذوا مما ءاتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به) أى من ذلك , وقال الترمذى عن الربيع بنت معوذ ابن عفراء, أنها اختلعت من زوجها على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم) فأمرها النبى (صلى الله عليه وسلم), أو أُمرت أن تعتد بحيضة , قال الترمذى الصحيح أنها أُمرت أن تعتد بحيضة ,
وقوله تعالى (تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون)
أى هذه الشرائع التى شرعها لكم هى حدوده فلا تتجاوزوها كما ثبت فى الحديث الصحيح " إن الله حدّ حدودا فلا تعتدوها وفرض فرائض فلا تضيعوها وحرّم محارم فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تسألا عنها" والله تعالى أعلى وأعلم ...

وفى قول الله تعالى (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون)
أى أنه إذا طلق الرجل إمرأته طلقة ثالثة بعد ما أرسل عليها الطلاق مرتين فإنها تحرم عليه (حتى تنكح زوجا غيره) أى حتى يطأها زوج آخر فى نكاح صحيح فلو وطئها واطىء فى غير نكاح ولو فى ملك اليمين لم تحل للأول لأنه ليس بزوج وهكذا لو تزوجت ولكن لم يدخل بها الزوج لم تحل للأول , هكذا وقع فى رواية ابن جرير وقد رواه الإمام أحمد فقال : حدثنا محمد بن جعفر عن علقمة بن مرثد قال : سمعت سالم بن رزين يحدث عن سالم بن عبد الله بن عمر عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الرجل تكون له المرأة فيطلقها ثلاثة ثم يتزوجها رجل فيطلقها قبل أن يدخل بها فترجع إلى زوجها الأول فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) " حتى تذوق العسيلة " وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) " ألا إن العسيلة الجماع "
وعن ابن مسعود عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
" لعن الله المحلل والمحلل له "
وقوله تعالى (فإن طلقها) أى الزوج الثانى بعد الدخول بها ,(فلا جناح عليهما أن يتراجعا)
أى المرأة والزوج الأول (إن ظنا أن يقيما حدود الله) أى يتعاشرا بالمعروف , قال مجاهد : إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة (وتلك حدود الله) أى شرائعه وأحكامه (يبينها) أى يوضحها (لقوم يعلمون) وقد اختلف الأئمة رحمهم الله فيما إذا طلق الرجل إمرأته طلقة أو طلقتين وتركها حتى انقضت عدتها ثم تزوجت بآخر فدخل بها ثم طلقها فانقضت عدتها ثم تزوجها الأول هل تعود إليه بما بقى من الثلاث كما هو مذهب مالك والشافعى وأحمد بن حنبل وهو قول طائفة من الصحابة رضى الله عنهم أن يكون الزوج الثانى قد هدم ما قبله من الطلاق فإذا عادت إلى الأول تعود بمجموع الثلاث كما هو مذهب أبى حنيفة وأصحابه رحمهم الله وحجتهم أن الزوج الثانى إذا هدم الثلاث فلأن يهدم ما دونها بطريق الأولى والأحرى والله أعلم ...
