
فى قول الله تعالى ((يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )
يقول تعالى مخاطبا للمؤمنين من هذه الأمة وآمرا لهم بالصيام وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله عز وجل لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة , وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم فلهم فيهم أسوة حسنة وليجتهد هؤلاء فى أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك ,
كما قال تعالى (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات)
ولهذا قال هاهنا (يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)
لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان , ولهذا ثبت فى الصحيحين " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء "

وفى قوله تعالى ( أياما معدودت فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون )
ثم بين الله تعالى مقدار الصوم وأنه ليس فى كل يوم لئلا يشق على النفوس , فتضعف عن حمله وأدائه بل فى أيام معدودات ,
وقد كان هذا فى ابتداء الإسلام يصومون من كل شهر ثلاثة أيام , ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان ,
عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) " صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم " فى حديث طويل أختصر منه ذلك
وقوله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر)أى المريض والمسافر لا يصومان فى حال المرض والسفر لما فى ذلك من المشقة عليهما , بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أخر ,
وأما الصحيح المقيم الذى يطيق الصيام فقد كان مخيرا بين الصيام والإطعام , إن شاء صام وإن شاء فطر وأطعم عن كل يوم مسكينا , فإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم فهو خير , وإن صام فهو أفضل من الإطعام قاله ابن مسعود وابن عباس وغيرهم ,
ولهذا قال تعالى (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون)
فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وصام عاشوراء , ثم إن الله فرض عليه الصيام وأنزل الله تعالى (يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)
إلى قوله تعالى (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكينا فأجزأ ذلك عنه ,
ثم إن الله عز وجل أنزل الآية الأخرى (شهر رمضان الذى أنزل فيه القرءان) إلى قوله (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) فأثبت الله صيامه على الصحيح المقيم , ورخص فيه للمريض والمسافر وثبت الإطعام للكبير الذى لا يستطيع الصيام ,
وعن ابن عباس قال : نزلت هذه الأية (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ) فى الشيخ الكبير الذى لا يطيق الصوم ثم ضعف فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكينا والله تعالى أعلى وأعلم ...

وفى قوله تعالى (شهر رمضان الذى أنزل فيه القرءان هدى للناس وبينت من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر
ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون)
يمدح تعالى شهر رمضان من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم , وكما اختصه بذلك قد ورد الحديث بأنه الشهر الذى كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء , والله تعالى أعلى وأعلم
وكان نزول القرأن فى شهر رمضان فى ليلة القدر منه , كما قال تعالى (إنا أنزلنه فى ليلة القدر) وقوله تعالى (هدى للناس وبينت من الهدى والفرقان) هذا مدح للقرآن الذى أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه , (وبينت) أى ودلائل وحجج واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها , ومفرقة بين الحق والباطل والحلال والحرام , وقوله (فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) هذا إيجاب حتم على من شهد الشهر أى كان مقيما فى البلد حين دخل رمضان وهو صحيح فى بدنه أن يصوم لا محالة ولما ختم الصيام أعاد ذكر الرخصة للمريض وللمسافر فى الإفطار بشرط القضاء فقال تعالى (ومن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) معناه , ومن كان به مرض فى بدنه يشق عليه الصيام أو يؤذيه أو كان على سفر أى فى حال السفر فله أن يفطر , فإذا أفطر فعليه عدة ما أفطر فى السفر من الأيام ولهذا قال تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) أى انما رخص لكم فى الفطر فى حال المرض والسفر مع تحتمه فى حق المقيم الصحيح , تيسيرا عليكم ورحمة بكم ...
وقوله تعالى (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هدكم) أى انما أرخص لكم فى الإفطار للمريض والمسافر ونحوهما من الأعذار لإرادته بكم اليسر وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدة شهركم , ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم كما قال تعالى (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم ءاباءكم أو أشد ذكرا) وذهب داود بن على الأصفهانى إلى وجوب التكبير فى عيد الفطر
وذهب أخرون إلى عدم استحباب التكبير فى عيد الفطر , والله تعالى أعلى وأعلم ...
وقوله تعالى (ولعلكم تشكرون) أى إذا قمتم بما أمركم الله من طاعته بأداء فرائضه وترك محارمه وحفظ حدوده , فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك ...
