
فى قول الله تعالى ( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشونى ولأتم نعمتى عليكم ولعلكم تهتدون )
كرر الله تعالى قوله (ومن حيث فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم
فولوا وجوهكم شطره) حتى يقطع حجة اليهود ومشركى العرب ...
وقوله تعالى (لئلا يكون للناس عليكم حجة ) أى أهل الكتاب فإنهم يعلمون
من صفة هذه الأمة التوجه إلى الكعبة , فإذا فقدوا ذلك من صفتها ربما احتجوا
على المسلمين ولئلا يحتجوا بموافقة المسلمين إياهم فى التوجه إلى بيت المقدس
وقال أبو العالية : يعنى به أهل الكتاب حين قالوا صُرف محمد إلى الكعبة :
وقالوا اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه وكان حجتهم على النبى
(صلى الله عليه وسلم) انصرافه إلى البيت الحرام أن قالوا سيرجع إلى ديننا
كما رجع إلى قبلتنا , وهكذا روى عن مجاهد والسدى وأبى حاتم نحو ذلك...
وقالوا فى قوله تعالى (إلا الذين ظلموا منهم) يعنى مشركى قريش ,
ووجه بعضهم ظلمة الحجة وهى داحضة أن قالوا هذا الرجل يزعم أنه على
دين إبراهيم فإن كان توجهه إلى بيت المقدس على ملة ابراهيم فلم رجع عنه
والجواب : أن الله تعالى اختار له التوجه إلى بيت المقدس , أولا لما له تعالى
فى ذلك من الحكمة فأطاع ربه تعالى فى ذلك , ثم صرفه إلى قبلة سيدنا ابراهيم
(عليه السلام) فامتثل أمر الله فى ذلك أيضا , فهو صلوات الله وسلامه عليه
مطيع لله تعالى فى جميع أحواله , ولا يخرج عن أمر الله طرفة عين وأمته تبع له
وقوله تعالى (فلا تخشوهم واخشونى) أى لا تخشوا شُبه الظلمة المتعنتين
وأفردوا الخشية لى , فإنه تعالى هو أهل أن يُخشى منه ,
وقوله تعالى (ولأتم نعمتى عليكم) عطف على قوله تعالى (لئلا يكون للناس عليكم حجة) أى لأتم نعمتى عليكم فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة ,
لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها , وقوله (ولعلكم تهتدون) أى إلى ما ضلت
عنه الأمم,هديناكم إليه وخصصناكم به ,ولهذا كانت هذه الأمة أشرف الأمم وأفضلها

وفى قوله تعالى (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم ءايتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون )
يذكر الله تعالى عباده المؤمنين ما أنعم عليهم به من بعثة الرسول محمد
(صلى الله عليه وسلم) يتلوا عليهم آيات الله مبينات , ويزكيهم أى يطهرهم ,
من رذائل الأخلاق ودنس النفوس وأفعال الجاهلية , ويخرجهم من الظلمات إلى
النور , ويعلمهم الكتاب وهو القرأن , والحكمة وهى السنة , ويعلمهم مالم يكونوا
يعلمون , فكانوا فى الجاهلية جهلاء يسفهون بالعقول الغرَاء ,
فانتلقوا ببركة رسالته ويمن سفارته إلى حال الأولياء وسجايا العلماء ,
فصاروا أعمق الناس علما , وأبرَهم قلوبا وأقلهم تكلَفا , وأصدقهم لهجة ...

وفى قوله تعالى (فأذكرونى أذكركم وأشكروا لى ولا تكفرون )
يقول الله تعالى , وكما بعثت فيكم محمد (صلى الله عليه وسلم) وكل ما فعلت لكم
فأذكرونى قال عبد الله بن وهب عن سعيد بن زيد بن أسلم , أن سيدنا موسى
(عليه السلام) قال : يارب كيف أشكرك ؟ قال له ربه : تذكرنى ولا تنسانى ,
فإذا ذكرتنى فقد شكرتنى وإذا نسيتنى فقد كفرتنى ...
وقال أبو العالية والسدى وغيرهم : أن الله تعالى يذكر من ذكره ويزيد من شكره ,
ويعذب من كفره ...
وقال الحسن البصرى : أى اذكرونى فيما أوجبت لكم على نفسى ,
وعن سعيد بن جبير : أى أذكرونى بطاعتى أذكركم بمغفرتى , وفى رواية برحمتى
وعن ابن عباس : ذكر الله تعالى إياكم أكبر من ذكركم إياه ,
قال الإمام أحمد عن قتاده عن أنس قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
قال الله عز وجل " يا ابن آدم إن ذكرتنى فى نفسك ذكرتك فى نفسى وإن ذكرتنى
فى ملأ ذكرتك فى ملأ خير منه , وإن دنوت منى شبرا دنوت منك ذراعا ,
وإن دنوت منى ذراعا دنوت منك باعا , وإن أتيتنى تمشى أتيتك هرولة "
صحيح الإسناد وأخرجه البخارى ...
وقوله تعالى (وأشكروا لى ولا تكفرون) أمر الله تعالى بشكره , ووعد على شكره
بمزيد الخير , وكما قال تعالى (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابى لشديد).
