
فى قول الله تعالى (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون
عما كانوا يعملون)
قال تعالى (تلك أمة قد خلت) أى مضت (لها ما كسبت ولكم ما كسبتم) أى :
لهم أعمالهم ولكم أعمالكم , (ولا تسئلون عما كانوا يعملون) ولا يغنى عنكم
انتسابكم اليهم من غير متابعة منكم لهم ولا تغتروا بمجرد النسبة اليهم حتى
تكونوا منقادين مثلهم لأوامر الله تعالى واتباع رسله الذين بُعثوا مبشرين
ومنذرين , فإنه من كفر بنبى واحد فقد كفر بسائر الرسل , ولا سيما بسيد الأنبياء
وخاتم المرسلين ورسول رب العالمين إلى الإنس والجن من المكلفين صلوات
الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله أجمعين ...

وفى قول الله تعالى (سيقول السفهاء من الناس ما ولهم عن قبلتهم التى كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم )
قيل المراد بالسفهاء هنا هم مشركوا العرب , وقيل أنهم أحبار اليهود , وقيل المنافقون , والآية عامة فى هؤلاء كلهم والله أعلى وأعلم...
وقال ابن أبى حاتم عن أبى اسحاق عن البراء قال :
كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا , وكان يحب أن يوجه نحو الكعبة , فأنزل الله تعالى قوله
(قد نرى تقلب وجهك فى السماء ) حتى قوله تعالى (فول وجهك شطر المسجد الحرام)
قال فوجه نحو الكعبة فقال السفهاء وهم اليهود : وما ولاهم عن قبلتهم
التى كانوا عليها , فأنزل الله تعالى (قل لله المشرق والمغربيهدى من يشاء إلى صراط مستقيم) وقد جاء فى هذا الباب أحاديث كثيرة , وحاصل الأمر أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أُمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس , فكان بمكة يصلى بين الركنين , وهو مستقبل صخرة بيت المقدس , فلما هاجر الى المدينة تعذر
الجمع بينهما فأمره الله تعالى بالتوجه الى بيت المقدس , قاله ابن عباس والجمهور
وكان النبى (صلى الله عليه وسلم) يكثر من الدعاء بأن يوجهه الله تعالى نحو الكعبة التى هى قبلة ابراهيم (عليه السلام) فأُجيب الى ذلك وأمر بالتوجه الى البيت العتيق , وخطب فى الناس حتى يعلمهم القبلة , وكانت أول صلاة صلاها
نحو الكعبة هى صلاة العصر , والله تعالى أعلى وأعلم ...
قوله تعالى (قل لله المشرق والمغرب) أى الحكم والتصرف والأمر كله لله , وأن
الشأن كله فى امتثال أوامر الله تعالى , فحيثما توجهنا توجهنا فالطاعة فى امتثال أمره , وأن الله تعالى يهدى الناس إذ هداهم إلى قبلة ابراهيم خليل الرحمن
وجعل توجههم الى الكعبة المبنية على اسمه تعالى وحده لا شريك له أشرف بيوت الله فى الأرض كما قال تعالى (يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم)
فهو تعالى يهدى من يشاء إلى الصراط المستقيم ..

وفى قول الله تعالى ( وكذلك جعلنكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التى كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمنكم إن الله بالناس لرءوف رحيم)
يقول الله تعالى (وكذلك جعلنكم أمة وسطا لتكونا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) يقول تعالى انما حولناكم الى قبلة ابراهيم (عليه السلام) واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم , لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم , لأن الجميع معترفون لكم بالفضل , والوسط هاهنا الخيار والأجود كما يقال
قريش أوسط العرب نسبا ودارا أى خيرها ..
وكان النبى (صلى الله عليه وسلم) وسطا فى قومه أى أشرفهم نسبا
فخص الله تعالى هذه الأمة بأفضل الشرائع , وأقوم المناهج وأوضح المذاهب ,
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يجىء النبى يوم القيامة ومعه رجلان وأكثر
من ذلك , فيُدعى قومه فيُقال له : هل بلغكم هذا ؟ فيقولون لا , فيُقال له هل بلغت
قومك ؟ فيقول نعم , فيُقال من يشهد لك ؟ فيقول محمد وأمته , فيُدعى محمد وأمته
فيُقال لهم هل بلغ هذا قومه ؟ فيقولون نعم , فيُقال وما علمكم ؟ فيقولون جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا فذلك قوله عز وجل (وكذلك جعلنكم أمة وسطا)
قال أى عدلا (لتكونوا شهداء على الناس وليكون الرسول عليكم شهيدا)
وتعددت الأقوال فى هذا المعنى والله تعالى أعلى وأعلم...
وقوله تعالى (وما جعلنا القبلة التى كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله)
يقول تعالى : إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولا إلى بيت المقدس ثم صرفناك عنه إلى الكعبة , ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه , أى مرتدا عن دينه (وإن كانت لكبيرة) أى هذه الفعلة وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة أى وإن كان هذا الأمر عظيما فى النفوس إلا
على الذين هدى الله وأيقنوا بتصديق الرسول , وأن كل ما جاء به هو الحق , الذى
لا مرية فيه , وأن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد , وله الحكمة التامة والحجة البالغة فى جميع ذلك , بخلاف الذين فى قلوبهم مرض ,
فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكا , ولكن يزيد المؤمنين هدى واتباع لأوامر الله تعالى , وينتهوا عن زواجر الله تعالى وابتاع رسله بما جاءوه بالحق من ربهم ,
وقوله تعالى (وما كان الله ليضيع إيمنكم إن الله بالناس لرءوف رحيم)
أى صلاتكم إلى بيت المقدس , قبل ذلك ما كان يضيع ثوابها عند الله تعالى ,
وفى الصحيح من حديث أبى اسحاق السبيعى عن البراء قال :
مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس , فقال الناس ما حالهم فى ذلك ؟ فأنزل الله تعالى (وما كان الله ليضيع إيمنكم)
ورواه الترمذى عن ابن عباس وصححه , وهذا يعنى أن الله تعالى لايضيع اتباع أوامر الله تعالى فى تحويل القبلة ولا يعترضوا ولكنهم فعلوا ما يُأمرون , وأطاعوا الرسول فى كل شىء أتاهم به من عند الله تعالى ...
وقوله تعالى (إن الله بالناس لرءوف رحيم) ففى الصحيح أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رأى امرأة من السبى قد فُرق بينها وبين ولدها فجعلت كلما وجدت صبيا من السبى أخذته فألصقته بصدرها وهى تدور على ولدها , فلما وجدته ضمته اليها وألقمته ثديها ,
فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) " أترون هذه طارحة ولدها فى النار ؟ وهى تقدر أن لا تطرحه ؟ " قالوا لا يا رسول الله , قال " فوالله لله أرحم بعباده من هذه بولدها "
اللهم إنا نسألك واسع رحمتك ومغفرتك ..
