
فى قول الله تعالى (ومن أظلم ممن منع مسجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى فى خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم فى الدنيا خزى ولهم فى الأخرة عذاب عظيم)
اختلف المفسرون فى المراد من الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه , وهما قولين :
أحدهما : ما رواه العوفى فى تفسيره , عن ابن عباس , قال هم النصارى أعداء الله تعالى , حملهم بغض اليهود أن أعانوا بختنصر البابلى المجوسى على تخريب بيت المقدس...
والقول الثانى : ما رواه ابن جرير قال : قال ابن زيد : هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه يوم الحديبية , وبين دخول مكة حتى نحر هديه بذى طوى وهادنهم , وقال لهم : ما كان أحد يصد عن هذا البيت , وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده , فقالوا لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق ...
قال ابن كثير أن الأرجح والله أعلى وأعلم القول الثانى : كما قاله ابن زيد , وروى عن ابن عباس , لأن النصارى اذا منعت اليهود الصلاة فى البيت المقدس , كأن دينهم أقوم من دين اليهود , وكانوا أقرب منهم , ولم يكن ذكرالله تعالى اليهود مقبولا إذ ذاك , لأنهم لعنوا من قبل على لسان داوود وعيسى بن مريم (عليهما السلام) ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون , وأيضا أنه تعالى لما وجه الذم فى حق لليهود والنصارى , شرع فى ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه من مكة ومنعوهم من الصلاة فى المسجد الحرام , وأما اعتماده على أن قريشا لم تسع فى خراب الكعبة , فأى خراب أعظم مما فعلوا ؟ أخرجوا عنها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه , واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم , كما قال الله تعالى (وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون)(الأنفال 34)
فهذا هو الخراب أن يمنعوا ذكر الله تعالى فى مساجده , واقامة شريعته...
وفى قوله تعالى (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) وهذا الخبرمعناه الطلب , أى لا تمكنوا هؤلاء اذا قدرتم عليهم , من دخولها إلا تحت الهدنة والجزية , ولهذا لما فتح رسول الله(صلى الله عليه وسلم) مكة , أمر من العام القابل فى سنة تسع أن ينادى برحاب منى " ألا لا يحجن بعد العام مشرك, ولا يطوفن بالبيت عريان , ومن كان له أجل فأجله إلى مدته "
وقال بعض المفسرين أى : ما كان ينبغى لهم أن يدخلوا مساجد الله تعالى إلا خائفين على حال التهيب , وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم , فضلا أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين منها , والمعنى : ما كان الحق والواجب إلا ذلك , لولا ظلم الكفرة وغيرهم , والله تعالى أعلى وأعلم...
وما ذاك الا تشريف أكناف المسجد الحرام وتطهير البقعة المباركة التى بعث فيها رسوله (عليه الصلاة والسلام) إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا , وهذا هو الخزى لهم فى الدنيا , لأن الجزاء من جنس العمل , فكما صدوا المؤمنين عن المسجد الحرام , صدوا عنه , وكما أجلوهم من مكة أجلوا منها , وقوله تعالى (ولهم فى الأخرة عذاب عظيم) أى على ما انتهكوا من حرمة البيت وامتهنوه من نصب الأصنام حوله , والدعاء الى غير الله تعالى عنده والطواف به عريا , وغير ذلك من أفاعيلهم التى يكرهها الله ورسوله , والصحيح أن خزى الدنيا شىء عظيم جدا , حيث كما قال الأمام أحمد عن بسر بن أرطأة قال كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يدعو " اللهم أحسن عاقبتنا فى الأمور كلها , وأجرنا من خزى الدنيا وعذاب الأخرة " والله تعالى أعلى وأعلم ...
وفى قول الله تعالى (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم)
وهذا والله أعلم فيه تسلية للرسول (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه الذين أُخرجوا من مكة وفارقوا مسجدهم ومصلاهم , وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلى بمكة الى بيت المقدس والكعبة بين يديه , فلما قدم المدينة وجه الى بيت المقدس ستة عشر شهرا , أو سبعة عشر شهرا , ثم صرفه الله تعالى الى الكعبة بعد , ولهذا يقول تعالى (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) والله تعالى أعلى وأعلم ...
وقال عكرمة عن ابن عباس : أى قبلة الله تعالى أينما توجهت شرقا أو غربا
وهذه القبلة هى الكعبة ...
وقال ابن جرير وأخرون , أنما نزلت هذه الأية قبل أن يفرض الله تعالى التوجه الى الكعبة, وإنما أنزلها تعالى ليعلم نبيه (صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاءوا من نواحى المشرق والمغرب , لأنهم لا يوجهون وجوههم وجها من ذلك وناحية إلا كان جل ثناؤه فى ذلك الوجه وتلك الناحية , لأنه تعالى له المشارق والمغارب , وأنه لا يخلو منه مكان , كما قال الله تعالى (ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا) (المجادلة 7) قالوا ثم نسخ ذلك بالفرض الذى فرض عليهم بالتوجه للمسجد الحرام , وقال ابن جرير ويحتمل فأينما تولوا وجوهكم فهنالك وجهى أستجيب لكم دعاءكم كما حدثنا القاسم , حدثنا الحسين , حدثنى حجاج , قال : قال ابن جريج , قال مجاهد : لما نزلت (ادعونى أستجب لكم) (غافر 60) قالوا الى أين ؟ فنزلت : (فأينما تولوا فثم وجه الله)واختلفت الأقوال كثيرا , ولكن الله تعالى أعلى وأعلم...
وفى قوله تعالى (إن الله واسع عليم) قال ابن جرير أى: يسع خلقه كلهم بالفضل والكفاية , والإفضال والجود ...
واما قوله (عليم) أى عليم بأعمالهم لا يخفى عنه منها شىء , ولا يعزب عن علمه , بل هو بجميعها عليم ...
وفى قوله تعالى (وقالوا اتخذ الله ولدا سبحنه بل له ما فى السموت والأرض كل له قانتون)
اشتملت هذه الأية الكريمة والتى تليها على الرد على النصارى عليهم لعائن الله تعالى , وكذا من أشبههم من اليهود ومن مشركى العرب , ممن جعل الملائكة بنات الله تعالى , فأكذب الله تعالى جميعهم فى دعواهم وقولهم إن لله ولدا , وقوله تعالى (سبحانه) أى : تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوا كبيرا , (بل له ما فى السموت والأرض) أى: ليس الأمر كما افتروا وإنما له ملك السماوات والأرض , وهو المتصرف فيهم , وهو خالقهم ورازقهم , ومقدرهم ومسخرهم , ومسيرهم ومصرفهم كما يشاء , والجميع عبيد له وملك له , فكيف يكون له ولد منهم , والولد إنما يكون من شيئين متناسبين , وهو تبارك وتعالى ليس له نظير , ولا مشارك فى عظمته وكبريائه , ولا صاحبة له , فكيف يكون له ولد !!
وفى الصحيحين قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) " لا أحد أصبر على سمعه من الله , إنهم يجعلون له ولدا , وهو يرزقهم ويعافيهم "
وقوله تعالى (كل له قانتون) قال عكرمة , أنهم مقرون له بالعبودية , وقال سعيد بن جبير أى : مخلصون , وعن ابن عباس أى : مصلين , وقال السدى أى : مطيعون له يوم القيامة , والله تعالى أعلى وأعلم...
