

فى قول الله تعالى (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا ءايات الله هزوا وأذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل الله عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شىء عليم )
هذا أمر من الله عز وجل للرجال إذا طلق أحدهم المرأة طلاقا له عليها فيه رجعة أن يُحسن فى أمرها إذا انقضت عدتها ولم يبق منها إلا مقدار ما يمكنه فيه رجعتها فإما أن يمسكها أى يرتجعها إلى عصمة نكاحه بمعروف وهو أن يشهد على رجعتها وينوى عشرتها بالمعروف أو يسرحها أى يتركها حتى تنقضى عدتها ويُخرجها من منزله بالتى هى أحسن من غير شقاق ولا مخاصمة ولا تقابح قال الله تعالى (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) , قال ابن عباس وغير واحد : كان الرجل يطلق المرأة فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها ضرارا لئلا تذهب إلى غيره ثم يطلقها فتعتد فإذا شارفت على انقضاء العدة طلق لتطول عليها العدة فنهاهم الله عن ذلك وتوعدهم فقال (ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه) أى بمخالفته أمر الله تعالى ...
وقوله تعالى (ولا تتخذوا ءايات الله هزوا) قال ابن جرير عند هذه الأية : أخبرنا كريب عن أبى موسى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) غضب على الأشعريين فأتاه أبو موسى فقال : يا رسول الله أغضبت على الأشعريين , فقال :"يقول أحدكم قد طلقت قد راجعت ليس هذا طلاق المسلمين طلقوا المرأة فى قبل عدتها " وقال الحسن وقتادة وغيرهم : هو الرجل يطلق ويقول : كنت لاعبا أو يعتق أو ينكح ويقول كنت لاعبا فأنزل الله تعالى (ولا تتخذوا ءايات الله هزوا) فألزم الله بذلك ..
وقوله تعالى (واذكروا نعمت الله عليكم) أى فى إرساله الرسول بالهدى والبينات إليكم (وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة) أى السنة (يعظكم به) أى يأمركم وينهاكم ويتوعدكم على ارتكاب المحارم (واتقوا الله) أى فيما تأتون وفيما تذرون (واعلموا أن الله بكل شىء عليم) أى فلا يخفى عليه شىء من أموركم السرية والجهرية وسيُجازيكم على ذلك..

وفى قول الله تعالى ( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الأخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون )
قال على بن أبى طلحة عن ابن عباس : نزلت هذه الأية فى الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين فتنقضى عدتها ثم يبدو له أن يتزوجها وأن يراجعها وتريد المرأة ذلك فيمنعها أولياؤها من ذلك فنهى الله تعالى أن يمنعوها ...
وفيه دلالة على أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسها وأنه لابد فى النكاح من ولى , كما جاء فى الحديث "لا تُزوج المرأة المرأة ولا تُزوج المرأة نفسها فإن الزانية هى التى تُزوج نفسها" وفى الأثر الأخر " "لا نكاح إلا بولى مرشد وشاهدى عدل " وذكر أن هذه الأية نزلت فى معقل بن يسار أنه زوّج أخته رجلا من المسلمين على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم) فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت عدتها فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطاب فقال له يا لكع بن لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها والله لا ترجع إليك أبدا آخر ما عليك قال فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن) إلى قوله تعالى (وأنتم لا تعلمون) فلما سمعها معقل قال : سمعا لربى وطاعة ثم دعاه فقال أزوّجك وأكرمك ,وزاذ ابن مردويه : وكفرت عن يمينى ...
وقوله تعالى (ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الأخر) أى هذا الذى نهيناكم عنه من منع الولايا أن يتزوجن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف يأتمر به ويتعظ به وينفعل به من كان منكم أيها الناس يؤمن بالله واليوم الأخر أى يؤمن بشرع الله ويخاف وعيده وعذابه فى الدار الأخرة وما فيها من الجزاء (ذلكم أزكى لكم وأطهر) أى اتباعكم شرع الله فى رد الموليات إلى أزواجهن وترك الحمية فى ذلك أزكى لكم وأطهر لقلوبكم (والله يعلم) أى المصالح فيما يأمر به وينهى عنه (وأنتم لا تعلمون) فى أى الخيرة فيما تأتون ولا فيما تذرون ...

وفى قوله تعالى ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك وإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما ءاتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير)
هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة وهى سنتان فلا اعتبار للرضاعة بعد ذلك ولهذا قال تعالى (لمن أراد أن يتم الرضاعة) وذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يُحرّم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما لم يحرّم قال الترمذى "باب ما جاء أن الرضاعة لا تُحرّم إلا فى الصغر دون الحولين "
حدثنا قتيبة عن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أم سلمة قالت : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) " لا يُحرّم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء فى الثدى وكان قبل الفطام " ومعنى قوله " إلا ما كان فى الثدى " أى فى محل الرضاعة قبل الحولين ,
وقوله تعالى (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) أى وعلى والد الطفل أى بما جرت به عادة أمثالهن فى بلدهن من غير إسراف ولا إقتار بحسب قدرته فى يساره وتوسطه وإقتاره كما قال تعالى (لينفق ذو سعة من سعته ومن قُدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا) قال الضحاك : إذا طلّق زوجته وله منها ولد فأرضعت له ولده وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف ,
وقوله تعالى (لا تُضار والدة بولدها) أى بأن تدفعه عنها لتضر أباه بتربيته ولكن ليس لها دفعه إذا ولدته حتى تسقيه اللبن الذى لا يعيش بدون تناوله غالبا ثم بعد هذا لها دفعه عنها إذا شاءت , ولكن إن كانت مُضارة لأبيه فلا يحل لها ذلك كما لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضرار لها ولهذا قال تعالى (ولا مولود له بولده) أى بأن يريد أن ينتزع الولد منها إضرارا بها , وقوله تعالى (وعلى الوارث مثل ذلك) قيل فى عدم الضرار لقريبه , وقيل عليه مثل ما على والد الطفل من الإنفاق على والدة الطفل والقيام بحقوقها وعدم الإضرار بها وهو قول الجمهور , وقد ذُكر أن الرضاعة بعد الحولين ربما ضرت الولد إما فى بدنه أو عقله ,
وقوله تعالى (فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما) أى فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين ورأيا فى ذلك مصلحة له وتشاورا فى ذلك وأجمعا عليه فلا جناح عليهما فى ذلك فيُؤخذ منه إن إنفرد أحدهما بذلك دون الأخر لا يكفى ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الأخر ..
وقوله تعالى (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما ءاتيتم بالمعروف)
أى إذا اتفقت الوالدة والوالد على أن يستلم منها الولد إما لعذر منها أو لعذر له فلا جناح عليهما فى بذله ولا عليه قبوله منها إذا سلمها أجرتها الماضية بالتى هى أحسن , واسترضع لولده غيرها بالأجرة بالمعروف قاله غير واحد ,
وقوله تعالى (واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير)أى اتقوا الله تعالى فى جميع أحوالكم , وأنه لا يخفى عليه شىء من أحوالكم وأقوالكم...
