التواب
قال تعالى: ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم"118"(سورة التوبة)
هو الذي يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات،وهو التواب الحكيم، وهو الذي يقابل الدعاء بالعطاء، والاعتذار بالاغتفار، والإنابةبالإجابة. والحق سبحانه حين قدر أمر التوبة على خلقه رحم الخلق جميعاً بتقنين هذهالتوبة، وهي إنقاذ للعالم من شرور لا نهاية لها. فلو أن أول واحد انحرف مرة واحدةفيغرق في الانحرافات كلها، ولم يجد باباً للتوبة لعاشت الإنسانية في الفساد، وفيالآخرة لهم عذاب أليم.
لذلك يقول الحديث الشريف: "إنالله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيءالليل"
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيمايرويه عن ربه عز وجل:
" ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك،ابن آدم أن تلقني بقراب الأرض خطايا لقيتك بقرابها مغفرة بعد أن لا تشرك بي شيئاً،ابن آدم إنك إن تذنب حتى يبلغ عنان السماء ثم تستغفرني أغفر لك ولا أبالي"
والمهم في التائب أن يكون قد عمل السوء بجهالة ثم تاب من قريب، والرسول صلىالله عليه وسلم حين حدد "من قريب" قال ما معناه: مادام العبد لم يغرغر أي: لم يصلإلي حشرجة الموت. إذن: فهو قد تاب من قريب "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر". ويقول الحق جل علاه: والذين إذا فعلوا فاحشة أوظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله "135" (سورةآل عمران)
إنه باب مفتوح لا يغلق أبداً إلا لرجل واحد، يقول الحقسبحانه: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دونذلك لمن يشاء .. "48" (سورة النساء)
ولذلك فلنا أن نسترجع الحوار الذيدار بين الحق وبين إبليس: قال رب بما أغويتنيلأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين "39" إلا عبادك منهم المخلصين "40" (سورةالحجر)
إن إبليس قال ذلك، لكن الله قال وأنا سأقبل توبة العبد ما لميغرغر. فمادام العبد لم يصل إلي مرحلة خروج الروح من الجسد، فالتوبة قد يقبلهاالله، لماذا؟ لأن التوبة مادام قد شرعها الله فهو قد فعل ذلك ليحمي المجتمع من شرالغارقين في المعصية والموغلين فيها. فإذا ما قدم العبد التوبة لحظة الغرغرة، فماذايستفيد المجتمع؟ إن المجتمع لم يستفد شيئاً؛ لأن مثل هذا العاصي تاب وقت لا شر له،لذلك فعلى العبد أن يتوب قبل ذلك حتى يرحم المجتمع من شرور المعاصي.
قال تعالى: إنما التوبة على الله يعملون السوء بجهالةٍ .. "17" (سورة النساء)
والعلماء عندما تناولوا أمر التوبة قالوا: هل يتوبالعبد أولاً، ثم يتوب الله عليه؟ إنه سبحانه يقول: ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم "118" (سورةالتوبة)
لنفهم النص جيداً: هل يتوب العبد أولاً وبعد ذلك يقبل اللهالتوبة؟ أم أن الله يتوب على العبد أولاً ثم يتوب العبد؟ إن الآية صريحة واضحةتقول: ثم تاب عليهم ليتوبوا .. "118" (سورةالتوبة)
وهنا نقول: وهل يتوب واحد ارتجالاً منه؟ أم أن الله شرع التوبةللعباد؟ إن الله قد شرع التوبة فتاب العبد، فقبل الله التوبة. نحن إذن أمام ثلاثةأمور، الله سبحانه وتعالى شرع للعباد التوبة، ولم يرتجل أحد توبته على الله، إنماالذي خلقنا جميعاً وقدر أن الواحد قد يضعف أمام بعض الشهوات لذلك وضع تشريع التوبة،وهو المقصود بقوله: ثم تاب عليهم .. "118" (سورةالتوبة)
أي: شرع لهم التوبة، وبعد ذلك يتوب العبد إلي الله "ليتوبوا"،وبعد ذلك يكون القبول من الله: غافر الذنب وقابلالتوب .. "3" (سورة غافر)
إنها ثلاث مراحل. إن الحق سبحانه شرع التوبة،والإنسان لم يبتكر التوبة إلي الله، وبعد ذلك يتوب الإنسان بالفعل، وبعد ذلك يقبلالله التوبة.
ويقول الحق سبحانه: إنما التوبةعلى الله .. "17" (سورة النساء)
ولو تأملنا كلمة "على الله" تجدها فيمنتهى العطاء. إن العبد عندما يحال إلي غني فهو يفرح، فإذا كان الواحد فقيراًومديناً ويحال إلي غني من العباد فهو يفرح؛ لأن العبد الغني قد يسدد دين العبدالفقير، فما بالنا بالتوبة التي أحالها الله على ذاته بكل كماله وجماله. إنه سبحانهأحال التوبة على نفسه لا على خلقه، إن التوبة على الله، فلا يملك واحد أن يرجعفيها: إنما التوبة على الله يعملون السوء بجهالةٍثم يتوبون من قريبٍ فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً .. "17" (سورةالنساء)
إن هذه الآية تتضمن عناصر التوبة، فالله تواب شرع التوبة،والعبد يتوب إلي الله، والحق سبحانه قابل التوبة، فحين قال الله: إنما التوبة على الله .. "17" (سورة النساء)
أي: أنهسبحانه أوجب على نفسه التوبة، وحين قال: ثم يتوبونمن قريبٍ .. "17" (سورة النساء)
أي: أن العبد يرجو التوبة من الله،وحين قال: فأولئك يتوب الله عليهم.. "17" (سورةالنساء)