* * * * *
والآية الثانية في هذا الباب، في كبيرة الظلم لأكل أموال الناس بالباطل هي قوله تعالى:
﴿ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)﴾
فأنا أتمنى أن يكون هذا واضحاً لديكم، أنت حينما تأكل المال الحرام، والحقيقة أن تسرق المال هذه حالة نادرة جداً، ولا يفعل هذا إلا فئة قليلة جداً من أغبياء المجتمع، أما هناك ألف طريق لأكل أموال الناس بالباطل وهم لا يشعرون، ألف طريق، والله مائة ألف طريق، مليون طريق تأكل أموال الناس بالباطل وهم لا يشعرون، أصحاب المهن الراقية مَن يحاسبهم ؟ لو قال لك الطبيب: أريد اثنا عشرة تحليل، وأنت لا تحتاجها إطلاقاً مَن يستطيع أن يناقشه ؟ لو قال لك الطبيب: تحتاج إلى تخطيط، وأنت لا تحتاج إليه، مَن يحاسبه ؟ لو قال لك المحامي: أنا أضمن لك نجاح هذه الدعوى، وهو موقنٌ أنها لا تنجح، ومعه ثماني سنوات وقد يأخذ منك أموالاً طائلة، ويستغل حرصك على الكيد لخصمك، المدرس قد يقول لأبِ أحد طلاَّبه: لو أعطيته دروساً خاصة سينجح، وهو موقن أنه لن ينجح.
أصحاب المهن الراقية التي تعتمد على اختصاص، هؤلاء معظم الناس لا يستطيعون أن يناقشوهم، لو قال الطبيب الجراح: تحتاج إلى عملية لاستئصال هذا الورم، والورم منتشر في كل الأحشاء، والأمل صفر، لكن يفتح البطن، ويزيل بعض هذا الورم ويأخذ مبلغاً طائلاً، وكذلك التجار، وهناك آلاف الطريق لكسب أموال الناس بالباطل.
يكفي أن تغير مصدر البضاعة، هي من صنع بلد شرقي، تبيعها على أنها من صنع بلد غربي. مرة رأيت تاجر اشترى حاشية ( made in franc ) بالمكواة تنطبع على حاشية الثوب هذه الكلمة، فصار القماش فرنسي، أربع أضعاف القماش الذي يصنع في دولة شرقية، هذا أكل أموال الناس بالباطل، أنواع الغش لا يعلمها إلا الله، الغش في البضاعة، الغش في نوعية البضاعة، الغش في طريقة عرض البضاعة. على كلٍ أنواع الغش لا يعلمها إلا الله، هذا من أكل أموال الناس بالباطل.
ويقول عليه الصلاة والسلام:
(( الظلم ظلماتٌ يوم القيامة ))
( من الجامع الصغير: عن " ابن عمر " )
ورد في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على السرير تمرة ـ وهو سيد الخلق وحبيب الحق ـ قال:
(( يا عائشة لولا أنني أخشى أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها ))
هذا هو الورع، وركعتان من ورع خيرٌ من ألف ركعة من مخلِّط. مثلاً: ممكن نشتري مواد أولية منته مفعولها، ونستخذمها في صناعة غذائية، ولا أحد يعلم إلا الله، ونربح أموالاً طائلة، لكن الله بالمرصاد.
وقال عليه الصلاة والسلام:
(( من أخذ شبراً من الأرض طوقه إلى سبع أرضين يوم القيامة ))
يقول عليه الصلاة والسلام:
( من كنز العمال: عن " ابن عمر " )
والله أعرف شخص يمكن معه قريب ألفين مليون، عليه أربعين ألف، يأتيه من يطالبه فيقول له: ثاني خميس، صار له سنتان، ثاني خميس، شيء عجيب !! ومعه أموال طائلة، وذمة ثابتة ولا يدفع، قال هذا هو:
(( مطل الغني ظلمٌ يحل عرضه ))
( من كنز العمال: عن " ابن عمر " )
أي لو تكلمت عنه لا تؤاخذ، لو قلت: سلعة، ما في مشكلة..
(( مطل الغني ظلمٌ يحل عرضه ))
ومن أكبر الظلم اليمين الفاجرة، هذه اليمين الفاجرة اليمين الغموس، هذه اليمين لا كفَّارة لها، لأنها تخرج الإنسان من دينه، فإذا قال لك الطبيب: ليس له دواء يأكل ما يشاء، معنى هذا أنه منته، أما إذا في أمل بالشفاء، في تشدد كبير جداً، اليمين الغموس لا كفارة لها لأنها تغمس صاحبها في النار، ولأنها تخرج الإنسان من إسلامه، وبعد اليمين الغموس ينبغي أن يجدد إسلامه، وأن يعلن الشهادة، قال عليه الصلاة والسلام:
(( من اقتطع حق امرئٍ مسلمٍ بيمينه فقد أوجب الله له النار ))
( من رياض الصالحين: عن " أبي أمامة " )
قال له: تحلف، قال له: جاء الفرج أحلف. الكذاب إن دعوته لحلف اليمين يفرح. والله قال لي شخص: أتينا بشاهد زور لقضية فطلب خمسة آلاف، يبدو أنه يشهد أول مرة شهادة زور، دخل إلى المحكمة فوجد مصحف ويمين، فقال له: أريد عشرة، في يمين لا توفي معنا. فقال عليه الصلاة والسلام:
(( من اقتطع حق امرئٍ مسلمٍ بيمينه فقد أوجب الله له النار ))
(من رياض الصالحين: عن " أبي أمامة " )
والله في هذه البلدة الطيبة إخوة كُثُر لا يحلفون يميناً ولو كانوا على حق، من شدة ورعهم. قيل: يا رسول الله وإن كان شيئاً يسيراً ؟ قال:
(( وإن كان قضيباً من أراك ))
هذا الحديث رواه مسلم، وكل إنسان لا يصدق النبي كافر، ولكن يقول سيدنا سعد بن أبي وقاص:
(( ثلاثةٌ أنا فيهن رجل وفيما سوى ذلك فأنا واحدٌ من الناس، ما سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حقٌ من الله تعالى "))
يقول النبي الكريم:
(( وإن كان قضيباً من أراك ))
لو حلفت يميناً على عود أراك ولم تكن محقاً يقول:
(( أوجب الله له النار ))
(( رواه الإمام مسلم ))
أين المسلمين ؟ في حوالي خمسة وثلاثين ألف دعوى في قصر العدل، بيوت تغتصب، أموال تغتصب، شركات تغتصب، أرباح طائلة بغير حق، كلها من طريق غير مشروع، إنسان يحتال عليه، يبتز ماله، كأن الله تخلى عن المسلمين، تخلى عنهم من سوء فهمهم لهذا الدين، فهموه عباداتٍ شعائريَّة، هو والله في الأساس عبادات تعاملية.