
فى قول الله تعالى (وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون )
قال ابن أبى حاتم , عن الصلت بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيرى عن أبيه عن جده أن أعرابيا قال : يارسول الله صلى الله عليك وسلم , أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه ؟
فسكت النبى (صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى قوله (وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى) إذا أمرتهم أن يدعونى فدعونى أستجبت , ورواه ابن جرير عن أحمد بن حميد الرازى...
وقال الإمام أحمد
عن أبى موسى الأشعرى قال : كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى غزوة فجعلنا لا نصعد شرفا ولا نعلو شرفا ولا نهبط واديا ولا رفعنا أصواتنا بالتكبير قال فدنا منا فقال " يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا بصيرا إن الذى تدعون أقرب إلى أحكم من عنق راحلته يا عبد الله بن قيس لا أعلمك كلمة من كنوز الجنة ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله " أخرجاه فى الصحيحين ,
اختلفت أقوال المفسرين فى سبب نزول هذه الأية , والله تعالى أعلى وأعلم ...

وفى قوله تعالى ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالئن بــشروهن ابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى اليل ولا تبــشروهن وأنتم عــكفون فى المســجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله ءايــته للناس لعلهم يتقون )
هذه رخصة من الله تعالى للمسلمين ورفع ما كان عليه الأمر فى ابتداء الإسلام فإنه كان إذا فطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشراب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة فوجدوا من ذلك مشقة كبيرة ,
والرفث هنا هو الجماع قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد وغيرهم ..
وقوله تعالى (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) قال ابن عباس : يعنى هن سكن لكم وأنتم سكن لهن , وقال الربيع بن أنس : هن لحاف لكم وأنتم لحاف لهن , وحاصله أن الرجل والمرأة كل منهما يخالط الأخر ويماسه ويضاجعه , فناسب أن يرخص لهم فى المجامعة فى ليل رمضان لئلا يشق عليهم ويُحرجوا
وقال البخارى هاهنا من طريق أبى اسحاق , سمعت البراء قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم , فأنزل الله (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم)
وبعضهم من قال أنه كان قبل نزول هذه الأية يصومون وبعد الإفطار عندما يصلوا العشاء فلا يأكلوا ولا يشربوا ولا يأتون نساءهم , فلذلك أنزل الله تعالى هذه الأية , والله تعالى أعلى وأعلم...
وقوله تعالى (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ) يعنى تجامعون النساء وتأكلون وتشربون بعد العشاء (فتاب عليكم وعفا عنكم فالئن بشروهن) يعن جامعوهن (وابتغوا ما كتب الله لكم) يعنى الولد (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى اليل ) فكان ذلك عفوا من الله ورحمة ,
وقال هشام عن حصين بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال : قام عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) فقال : يا رسول الله إنى أردت أهلى البارحة على ما يريد الرجل أهله فقالت إنها قد نامت فظننتها تعتل فواقعتها فنزل فى عمر قوله تعالى (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) فنزلت هذه الأية فى من فعل مثل عمر بن الخطاب , والله تعالى أعلى وأعلم ...
وقوله تعالى (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى اليل) أباح الله تعالى الأكل والشرب مع ما تقدم من إباحة الجماع فى أى الليل شاء الصائم إلى أن يتبين ضياء الصباح من سواد الليل وعبر عن ذلك بالخيط الأبيض من الخيط الأسود , وفى اباحته تعالى جواز الأكل إلى طلوع الفجر دليل استحباب السحور لأنه من باب الرخصة والأخذ بها محبوب
وقوله تعالى (ثم أتموا الصيام إلى اليل) يقتضى الإفطار عند غروب الشمس حكما شرعيا كما جاء فى الصحيحين عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) " إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم "
وقوله تعالى (ولا تبشروهن وأنتم عكفون فى المسجد) قال على بن أبى طلحة عن ابن عباس , هذا فى الرجل يعتكف فى المسجد فى رمضان أو فى غير رمضان فحرم الله عليه أن ينكح النساء ليلا أو نهارا حتى يقضى اعتكافه , والمراد بالمباشرة إنما هو الجماع ودواعيه من تقبيل ومعانقة ونحو ذلك ,
وقوله تعالى (تلك حدود الله) أى هذا بينا وفرضناه وحددناه من الصيام وأحكامه وما أبحنا فيه وما حرمنا وذكرنا غاياته ورخصه وعزائمه حدود الله أى شرعها الله وبيَنها بنفسه فلا تقربوها أى لا تجاوزوها وتتعدوها ,
وقوله تعالى (كذلك يبين الله ءايته للناس) أى كما بيَن الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله كذلك يبين سائر الأحكام على لسان عبده ورسوله محمد (صلى الله عليه وسلم) (للناس لعلهم يتقون) أى يعرفون كيف يهتدون وكيف يطيعون ...

وفى قوله تعالى ( ولا تأكلوا أمولكم بينكم بالبــطل وتدلوا بها للحكام لتأكلوا فريقا من أمول الناس بالإثم وأنتم تعلمون)
قال على بن أبى طلحة عن ابن عباس , هذا فى الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بينة فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام وهو يعرف أن الحق عليه وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام ,
وكذا روى عن مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن وقتادة وغيهم أنهم قالوا :
لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم وقد ورد فى الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال " ألا إنما أنا بشر وإنما يأتينى الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هى قطعة من نار فليحملها أو ليذرها "
فدلت هذه الأية الكريمة وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشىء فى نفس الأمر فلا يحل فى نفس الأمر حراما هو حرام , ولا يحرم حلالا هو حلال , وإنما هوملزم فى الظاهر فإن طابق فى نفس الأمر فذاك وإلا فللحاكم أجره وعلى المحتال وزره , ولهذا قال تعالى (ولا تأكلوا أمولكم بينكم بالبطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أمول الناس بالإثم وأنتم تعلمون)
أى تعلمون بطلان ما تدعونه وتروجونه فى كلامكم , قال قتادة :
اعلم يا ابن آدم أن قضاء القاضى لا يحل لك حراما ولا يحق لك باطلا وإنما يقضى القاضى بنحو ما يرى وتشهد به الشهود والقاضى بشر يخطىء ويصيب واعلموا أن من قضى له بباطل أن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة فيقضى على المبطل للمحق بأجود مما قضى به للمبطل على المحق فى الدنيا ...
