ماذا نعني بالنقد؟
معنى النقد في اللغة: يطلق على معنيين:
المعنى الأول: تمييز الجيد من الرديء من الدراهم والدنانير والنقود، فأنت تقول: نقدت الدراهم وانتقدتها إذا ميزت جيدها من رديئها، وأخرجت زيفها، ولذلك قال الشاعر:
الموتُ نـقَّاد على كفـه
دراهمُ يختارُ منها الثمينَ
فهذا معنى للنقد: اختيار الجيد، وتمييز الزائف.
المعنى الثاني: العيب والتجريح، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "الناس إن نقدتهم نقدوك، وإن تركتهم لم يتركوك"، يعني إن عبتهم عابوك، وإن سكت عنهم عابوك -أيضًا- فلا سلامة منهم.
وعلى كل حال، فالمعنى الأول الذي هو تمييز الطيب من الخبيث، والحسن من القبيح، والمزيف من الحقيقي؛ هو الذي ينطبق على المفهوم الشرعي للنقد.
.فالنقد في الشرع يعني: معرفة الخطأ والصواب، ويعني: الثناء على الخير ومدحه، وذم الشر ونقده، سواء أكان هذا الخير أو الشر في شخص، أو كتاب، أو عمل، أو هيئة، أو دولة، أو جماعة، أو أمة، أو غير ذلك، وهذا هو المعروف لدى أهل العلم والإيمان أفرادًا وجماعات، خاصة لدى أهل القرون الأولى المفضلة، فإن الغالب على نقدهم أنهم كانوا ينتقدون لبيان المعروف والأمر به، وبيان المنكر والنهي عنه، وهذا هو المعروف من سيرتهم وأقوالهم رضي الله تعالى عنهم.
- المعنى الثاني مذموم:
أما المعنى الثاني للنقد -الذي هو: الثلب، والعيب، والتجريح- فهذا هو الغالب على أهل هذا الزمان، الذين يعدّون النقد -كما أسلفنا- صورة من صور العداوة، والبغضاء، والتشهير، والتأليب على الشخص المنتقد، أو على الجهة المنتقدة، ولذلك لا يقبلون النقد؛ لأنهم يعدّونه نوعًا من التنقص.
وكذلك هم لا ينتقدون إنسانًا إلا إذا أبغضوه، وحاربوه، فهم ينتقدونه؛ لأنهم يسعون إلى إسقاطه، لا لأنهم يسعون إلى معرفة الحق من الباطل، بل همهم جمع المثالب، وحشد المعايب. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه: "لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة"([i])، فاللعان: هو الذي لا يعرف من الناس إلا موضع العيب، فكلما ذُكر عنده شخص عابه، فإن ذُكر عنده شخص بعبادة قال: نعم. عابد، ولكنه ليس بعالم، والعبادة بلا علم تضر أكثر مما تنفع! فإن ذكر عنده شخص بعلم قال: نعم هو عالم، ولكن المهم النية "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"([ii])!، فإن ذكر عنده شخص بجهاد قال: "ورُبَّ قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته"([iii])!، فإن ذكر عنده شخص بالإنفاق في سبيل الله قال: (فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً)[الأنفال:36].
وهكذا كلما ذُكر عنده شخص بمحمدة أو مدح أو ثناء، بحث عن عيب يلصقه به، وكأنه لا يسره إلا أن يذكر الناس عنده بالشر والسوء! وهذا موجود عند فئة من الناس اليوم!
.ومن شواهد التاريخ على ذلك خبر سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه -.
فقد شكا أهل الكوفة سعداً -وكان واليًا عليهم- إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي، فأرسل إليه عمر فقال له: "يا أبا إسحق، إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي"، قال سعد رضي الله عنه: "أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أَخْرِم([i]) عنها، أصلي العشاء فأَرْكُد([ii]) في الأُوليين، وأُخِف في الأُخريين" قال عمر: "ذاك الظن بك يا أبا إسحق".
لكن عمر رضي الله عنه لم يكتف بمجرد قناعته الشخصية بسعد بن أبي وقاص؛ لأنه أمام شكوى من
الشعب، فلابد أن يتثبت من هذه الشكوى بروح المحايدة والعدل والإنصاف؛ لأن سعدًا طرف وخصم، وأهل الكوفة طرف وخصم آخر، فأرسل عمر رضي الله عنه لجنة لتقصِّي الحقائق، وتذهب هذه اللجنة لا لتسأل أعيان البلد أو خواصهم، الذين يفترض أن الأمير قد يدنيهم إليه، وقد يكسب رضاهم بأي وسيلة وبأي ثمن، لا؛ بل تذهب هذه اللجنة لتقف في المساجد والأسواق، ويقولون لأهل المساجد: ماذا تقولون في أميركم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه؟
فكلما ذكروه في مسجد أثنوا عليه خيرًا، حتى جاؤوا مسجدًا من مساجد بني عبس، فقالوا: "ما تقولون في أميركم سعد بن أبي وقاص؟" فأثنوا عليه خيرًا، فقام رجل يقال له أسامة بن قتادة فقال: "أما إذ نشدتنا، فإن سعدًا كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية"! يعني وصفه بالجبن والظلم والحيف -والعياذ بالله- !! فغضب سعد بن أبي وقاص من ذلك أشد
الغضب؛ لأنه يعلم أن هذا الرجل كاذب، فقام وقال: "أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا، قام رياء وسمعة، فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن".
قال أحد رواة الحديث: "فأنا رأيته بعد، قد سقط حاجباه على عينه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن"([i]).
وكان بعد إذا سُئل يقول: "شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد".
فتأمل، كيف أن هذا الرجل لم يعرف لسعد بن أبي وقاص أنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بلاءه وجهاده في الإسلام، ولا أنه من أهل الجنة، ولا شيئًا من ذلك؛ إنما بهته بذكر مثالب ومعايب هي في الواقع كذب وافتراء.
.حكم هذا النوع من النقد:
ولا شك أن النقد بهذا المعنى محرم؛ لأنه نوع من
الغيبة، والله عز وجل يقول: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)[الحجرات:12]، وفي صحيح مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما الغيبة؟" قالوا: "الله ورسوله أعلم"، فقال: "ذكرك أخاك بما يكره"، قيل: "أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟"، قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتَّه"([i]).
وقد ذكر القرطبي رحمه الله إجماع العلماء على أن الغيبة من كبائر الذنوب، فإما أن تكون غيبة بهذا الاعتبار، وذلك كالذين يبحثون عن عيوب الناس ومثالبهم، ويفترضون أن هذه العيوب والمثالب موجودة فيهم، فإن كانوا أبرياء مما وصفوهم به فهي بهتان وظلم، والله سبحانه وتعالى لا يهدي القوم الظالمين، يقول عز وجل في الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن أبي ذر: "يا عبادي، إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا"([ii]) أي: لا يظلم بعضكم بعضًا!
وليس دافع هؤلاء بكل حال الإصلاح ولا تصحيح
الأخطاء، وإنما دافعهم الحسد والبغي، والحقد والظلم، و"ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخره له في الآخرة من: البغي وقطيعة الرحم"([i]) كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصل في الغيبة الحرمة والحظر إلا في حالات محصورة.
وقد ذكر العلماء ست حالات، وذكر البعض تسع حالات، قالوا: إنه يجوز فيها أن يُنال من الشخص بعينه وبذاته؛ لأن مصلحة الغيبة حينئذ تكون راجحة ظاهرة؛ وذلك كالتحذير من الفساق والمنافقين وأهل البدع، وغير ذلك.