سيدتي.. نعم أتذكرك جيدا, فمثل تلك القصة لا يمكن أن تمحى من الذاكرة! هل تصدقيني لو قلت لك أني أحكي تلك القصة حتى الآن لكثير ممن ألتقي بهم, كما يسألني كثير من الأصدقاء والقراء عن حالة الأب أو بماذا انتهت حكايتكم, وها أنت جئت بعد سنوات لتضعي كلمة النهاية, ولكن هل انتهت قصتكم أم بدأت؟
سبق وحذرتكم ـ ياعزيزتي ـ من أن المنتقم يرتكب نفس خطيئة المنتقم منه, وأن والدكم عندما عاد لم يكن هو هذا الوحش القديم الذي عذبكم وأهان والدتكم, بل هو انسان عائد بفطرته الأولى, بخيره ومحبته وسلامه.. نعم نحن بشر ولسنا ملائكة, قد نجنح إلى الانتقام, ولكن الله سبحانه وتعالى وضع ضوابطه لكبح جماح النفس وتهذيبها, فطالبنا بالعفو عند المقدرة, ووعد الصابرين والعافين عن الناس بجنات وخير كثير, ونهانا عن معصية الوالدين وأمرنا بطاعتهما وألا نقول لهما أف ولا ننهرهما ونصاحبهما في الدنيا معروفا حتى لو كان جهادهما للإشراك به سبحانه وتعالي.
من عاد إليكن ياسيدتي ليس والدكن قاسي القلب, متجرد المشاعر, الأناني المتغطرس.. من عاد هو رجل مسن بائس, قادكن العلي القدير إليه لترين انتقامه وليكن درسا لكن تتعلمن منه وتوقن بأنه سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل.. وبدلا من تأمل قدرة الله وفهم رسالته العظيمة, تحرك الوحش في داخلكن, واستمتعتن بالشر, ووجدتن لذة مرضية في إيذاء رجل عاجز فاقد للذاكرة, ليس فيه من والدكن إلا الجسد فبالغتن في إهانته وإذلاله, وهو التائب النادم على أشياء لا يذكرها بل ينكرها على أي أب, يخجل منها ويلتمس لكن العذر في الإساءة إليه.
سيدتي.. إنها النفس الأمارة بالسوء, التي أخرجت الوحش الكامن فيكن حتى أشقائه, خشوا على ما ورثوه عنه, وتجاهلوا أنه حي يرزق, وأن ما امتلكوه هو مال حرام سيحرق حتما قلوبهم وأولادهم, ولو كنت منهم الآن لتصدقت بكل ما ورثوه على روحه, فعليهم أن يسارعوا بتوبة إلى ربهم لعله سبحانه وتعالى يغفر لهم ويتقبل منهم.
سيدتي.. الحمد لله أن ضميرك قد استيقظ قبل رحيل والدك, فجعلك تستمتعين بوجوده معك, لذا هوني على نفسك, اطلبي المغفرة والتوبة, صلي من أجله, تصدقي وادعي له بالرحمة, وثقي في مغفرة الله فأبواب التوبة مشرعة للتائبين, وما يطمئنك أنه مات وهو راض عنك, محبا لك, ملتمسا كل الأعذار لما فعلته معه من تصرفات لا تليق بأبنة تجاه والدها في مثل هذه الظروف.
الأزمة الحقيقية ـ ياعزيزتي ـ في شقيقتيك وقلبيهما المتحجرين, فقد نقلت لنا ما لحق باحداهما من انتقام إلهي, ولم تذكري إذا كانت أفاقت من غفلتها واستقبلت الرسالة الإلهية, أم مازال قلبها غلفا ؟.. لعلها تلحق بنفسها وتستغفر الله وتتوب إليه وكذلك شقيقتك الأخرى, فانتقام الله قادم لا محالة ومن يقتل الوحش بداخله فقد نجا, أما من يستسلم له, فلن يجني إلا عذابا في الدنيا والآخرة, وإلى لقاء بإذن الله.
(العفو أشد أنواع الإنتقــام)